يعتبر الأمن الفكري الركيزة الأساس لتحقيق الأمن والسلامة على الصعيد المحلي والعالمي، ولأجل هذا الهدف العظيم يتولى كرسي الأمير نايف للأمن الفكري مسؤوليته بعقد الملتقيات والندوات والمؤتمرات والدورات التدريبية وورش العمل واللقاءات العلمية، وتتكرس جهود أفراد فريقه العلمية لوضع استراتيجية وطنية شاملة من شأنها حماية الشباب والنأي بهم عن الأفكار المنحرفة.

ولأجل اهتمامه بخلق آليات لتفعيل المشاركة المجتمعية يبادر في نشاطاته للتوجه للناس مباشرة بدل إصدارات الدراسات المغرقة في التنظير الأكاديمي، أو عقد محاضرات وعظية كما ذكر ذلك المشرف العام على كرسي الأمير نايف للأمن الفكري الدكتور خالد الدريس في أحد الحوارات معه موضحاً رؤيته بـ"ضرورة أن يشعر الإداريون والمعلمون وأئمة المساجد والخطباء أنهم جزء مشارك وفاعل، وشركاء في العملية الفكرية والرقم الأهم في المعادلة". وذلك يجعلنا نعقد الآمال بتولي هذا الكرسي الهام إخماد جذوة التطرف الفكري بشكل جدي وفاعل.

ولمن اطلع على رؤية الدكتور خالد لا شك سيَسعَد بمداخلته كمشارك برأي في الهم الأمني الوطني، وبتبادل الاقتراحات والأفكار معه، لإثراء تنشيط مجالات الأمن الفكرية أو تقييد مجالات اختراقاته، فالمشاركة المجتمعية حق كل مواطن كما هو رأيه السديد في هذه النقطة بالذات.

ورغم فرضية التزام الحياد وعدم تشتيت حلقة برنامج (البيان التالي) عن موضوعها الأساس ومحاورها ، إلا أن الدكتور بدأ حلقة "الإرهابيات قادمات" بتقسيم التطرف الإرهابي إلى تطرف ديني وآخر انحلالي، ممثلاً بمقال الإعلامية السعودية نادين البدير بطرحها فكرة القبول بالزواج بأربعة رجال، وهو الدكتور الذي لا يغفل عنه قصدها "بإحداث صدمة الشعور للرجل ليدرك حجم إحساس حزن المرأة عندما يتزوج زوجها بأخرى"، وليس كما صدّره المتطرفون وكما أرادوا لرسالته وهدفه من تعدٍ وزيف ولف ودوران.

وازدادت غرابتي عندما وقع في مخالفة بعض قناعاته بالإعراض عن مناقشة الأفكار التي طرحتها في مداخلتي معه، رغم كونها تتحدث عن بعض مخرجات التطرف الديني أو أسبابه، التي وإن اختلفنا في درجة مستوى أهميتها، فلا شك أنها تدخل ضمن دائرة الأمن الفكري أو مخرجات استلابه، متهماً بالتفخيخ سؤالي عن التطرف الليبرالي - على افتراض وجوده - أيحمل السلاح ويقتل الأبرياء ؟!

ثم بادر بنصيحة غريبة، عندما نصح الدكتور عبدالعزيز قاسم مدير برنامج البيان التالي بمواجهتي بسليمان الدويش، ليرد الدكتور عبدالعزيز رداً مناسبا من باب المواجهة بالمنطق ذاته، إذ قال له اقتراحك هو المفخخ، أنا حقيقة أجدني في هذه النقطة بالذات وبثقة أقول: إنني غنية عن النصائح، فمبدأي يحترم العقل، وعقلي أرقى من ثقافة النصيحة، أما الضيف المقترح (بفتح الراء) وكامرأة حرة لا يسعدني التحاور معه لأمور، لعل أهمها احتقاره للمرأة في ما قاله وما توعد بإكماله في مقالاته القنبلية والعارية عن الأدب بحق نائب وزير التربية والتعليم الأستاذة نورة الفايز، عدا آرائه الحادة التي تحمد حكمة شيوخه في معارضة تعليم البنات، فمن يرى حواره متقبلاً والجلوس معه شرفاً فليتفضل بمجالسته، فالمثل الشعبي يقول"عليك بالعافية"، أما أنا فغنية بعقلي عن مجالسة هؤلاء يا دكتور، سامحك الله، لكنها مشكلة البرامج الحوارية التي تتيح للضيف ما لا تتيحه للمُداخل خلف الأسوار الهاتفية.

انتقد الدكتور رأيي بأن الغلو والتطرف متغلغل في المجتمع، وذكر أنه منتشر في بعض الأسر، وهو هنا يعسر الأمور ويصعّب وضع خطوط رئيسية لاكتشاف هذه الأسر، فنسبة التطرف للأسر يحجم قدرتنا من وضع دائرة محددة لحماية المجتمع من تأثير أفرادها؟ بمعنى هل نستطيع أن نحمي المجتمع من تغلل تلك الأسر في مفاصل مؤسساته وبالتالي حماية المجتمع من تطرفهم؟.. إن معنى متغلغل ليس التعميم بقدر ما هو انتشار واسع النطاق لا نستطيع السيطرة عليه، كما أن تغلغل فكر التطرف يتجاوز الأفراد إلى الأفكار المتوارثة والمعتقدات المرتبطة بالتقليد والتبليد والمغيبة للتفكير وإعمال العقل.

ورداً لتغلغل التطرف يتساءل ألا ترى إنجازات الملك؟! سؤال ليس في مكانه فإنجازات الملك ما لها وللتطرف؟ بل الملك حفظه الله يتوجه بعقلية منفتحة ترفض الإقصاء والتطرف، ومجال الإنجازات هنا ربط لا يحل ولا يربط، إذ هو منبتّ أصلاً من أصل المقارنة.

لن يتحقق الأمن بمعزل عن أجواء العقل، بل وإتاحة الفرصة لانتشاره عبر مناطق التأثير الواسعة كالمدارس، وتعويد الطالبة على المحاجة العقلانية وعدم التسليم البسيط، وذلك حفاظاً على فكرها من التبعية والتشييء اللذين أوهماها أنها مجرد كتلة عاطفية متحركة.

ولا بد من تنظيم كل مؤسسة اخترقت مظلتها وأسيء استخدام أهدافها، خاصة دور القرآن والجمعيات الخيرية، فتقنينها وتنظيمها أو إزالة البعض منها خطوة في طريق الحل الجذري، كما نصح الدكتور خالد في أحد حواراته في تداخل الأمني بالفكري "ويتجلى الأثر الأمني في الفكري أكثر بتضييق الخناق عليهم" أي على الإرهابيين "في ثلاثة أمور مهمة وهي: تجنيدهم للأتباع، وحرمانهم من التمويل، وإغلاق منافذ التبشير بأفكارهم".

وكم تمنيت لو استمر حسن ظن الدكتور كما حسُن في الليبراليين فتطال أفكار الصادقين منهم لا المزدوجين، خاصة من ينادي منهم بعقلنة القرارات والتنظيمات وبتقنين حقوق الأفراد، حتى لا تكون حقوق الناس وحرياتهم كلاً مباحاً لمبادرة متطوع أو تنفيذا لفكر متطرف، أو مجالاً لاجتهاد متشدد.

أما ما حضّرت لذكره قبل قطع الخط، فضرورة إدخال منهج الفلسفة لإخراج الأسئلة العقلية المكبوتة إلى ميدان النقاش والتداول لنساهم ببناء فكر ناقد يحمي العقول من التبعية العمياء والتقليد البليد، ويساهم بضرورة تنويع الأنشطة المدرسية المتوقفة على نشاط المسجد فقط،، بفتح باب الأنشطة العلمية والتعبيرية والفنية، (والفنية لفظ يسع كل الفنون لا الموسيقى فقط، المثيرة لرعب البعض).

وهناك ضرورة لتجريم وتحريم فتاوى التكفير، وإغلاق منفذ الازدواجية حول هذا الفكر الذي ننهى عنه ونسوغه بالسماح بعبوره في ذات الوقت، ونحن نسمح لفلان من الناس أن يطلقه "سبهللا"، حيث لا حسيب ولا رقيب، وإغلاقه بكل منافذه كالاعتقادٍ بامتلاك الحقيقة المطلقة ، فرحمة الله أوسع مما يضيقون. إن تعزيز المناعة الفكرية للمجتمع ضد الإرهاب غاية متطلبات الأمن، وهو ما يتمناه الدكتور خالد وأنت وأنا ممن يشرف بحب الوطن ورغبة استقرار أمنه وعلو شأنه.