يواجه التعليم العام والجامعي في العديد من الدول تحديات كبيرة من أهمها المقدرة على مواكبة مستويات الذكاء المتزايدة عند جيل اليوم. التحدي الحقيقي ليس في تقديم المعارف المختلفة بقدر ما هو خلق المقدرة لتقديم ما يناسب هذا الجيل ويناسب احتياجات الغد من المقدرة على التخيل والإبداع. لم تعد التعليمات العامة، وأيضاً العالية، التي تعتمد على تقديم المعارف في مراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعية ذات جدوى فكرية أو إلهامية أو إبداعية، وهنا يجب السؤال عن مقدرة وفاعلية تعليمنا العام والعالي في خلق المساحات الذهنية والفكرية لجيل اليوم والغد.

رغم الاهتمام الحديث بخلق مجتمع معرفي في المملكة، إلا أن تحقيق هذا المجتمع لا يضمن أن نكون من الاقتصادات الناجحة على الإطلاق. الحقيقة أن التركيز على المعرفة بشكل شمولي أمر غير مجد حتى وإن أصبح هذا النهج المعرفي إستراتيجية رئيسية لوزارات وجامعات ومنظمات حكومية أخرى. إن كنا نريد، بالفعل، أن يصبح لدينا اقتصاد غير معتمد على النفط، اقتصاد النمور القادر على المنافسة، فيجب علينا أن نخلق مجتمعا إبداعيا تخيليا منتجا للمعرفة وليس مستهلكاً لها.

هل المعرفة أهم أم المقدرة على التخيل؟ أين الفرق؟ وما هي الأهمية؟ المعرفة موجودة في أشكال مختلفة منذ الأزل.. يمكن اكتسابها في أي سن وفي أي مكان وبطرق مختلفة، أصبحت سهلة في ظل توفر الوسائل الرقمية. كثرة المعارف وتنوعها تجعل الإلمام بها كاملة أمرا مستحيلا وفي ذات الوقت غير مفيد! اكتساب المعرفة كاملة لا يكفيه عمر إنسان حتى وإن ضوعف في عمره.

قدر بسيط من المعرفة (إذا ما قارناها بالإجمالي) مهم اكتسابه مثل القيم الثقافية للمجتمع المحددة لهوية الإنسان وكينونته، ما عدا هذا من المعارف يجب أن يترك للشخص واهتماماته ورغباته التخصصية.

حفظ المعارف ونقلها من الكتب والمجلدات إلى أعماق الذاكرة البشرية قيمته محدودة جداً وتكلفته باهظة، أقل ما فيها صرف الوقت في التكرار والاسترجاع وتضييق أو حتى شغل مساحات التفكير الإبداعي وتقليص المقدرة على تخيل المستقبل القادم. المعرفة بحقيقة وجودها هي من فعل الماضي، وجدت وطورت قبل اليوم، لهذا فالتفكير فيها تفكير في الماضي لحد ما، يمكن استرجاعها وبالسهولة نسبياً إعادة إنتاجها بذات الصورة. التفكير في غير الموجود من المعارف أو تطوير فكر جديد يتطلب المقدرة على تخيل معارف المستقبل قبل اكتشافها وإنتاجها، وهنا تكمن المنافسة بين الأمم وبين اقتصادات اليوم، وهنا يقع الفيصل بين التعليم الإبداعي المواكب والتعليم المعرفي المتخلف.

أن تخلق مجتمعاً معرفياً، لا يعني بالضرورة خلق مجتمع تخيلي إبداعي منتج للفكر ومكتشف للمعارف. خلق مجمتع إبداعي يعتمد بشكل كبير على التعليم التربوي الموجة سيعطي نتائج حقيقية للمجتمع والاقتصاد.

رواد المجتمع المعرفي يتربعون على هرم التربية والتعليم العام في المملكة ولكنهم لا يزالون يقيسون مستوى المعرفة وليس مستوى المقدرة الفكرية الإبداعية التخيلية. الواقع في التعليم العالي لا يختلف كثيراً، فعلى الرغم من رفع الشعارات لاقتصاد معرفي إلا أن تجربة الطالب السعودي في جامعاتنا مليئة بالتلقين وليس التفكير، لا تزال البيئة الأكاديمية المحفزة على الإبداع والاكتشاف المعرفي خارج استثمار الوزارة الحقيقي.

رغم تخصيص ميزانيات ضخمة لكلتا الوزارتين، إلا أن الناتج الإبداعي والتخيلي متواضع. لا تزال الفلسفة المعرفية الموجودة في هذين المستويين من التعليم غير قادرة على إيجاد خريطة طريق للانتقال بأجيالنا إلى المنافسة الإبداعية التخيلية. عدد المبدعين من مبتعثينا في الخارج أكبر من المبدعين الدارسين بالداخل.

لا تزال البيئة الدراسية والأكاديمية غير محفزة للإبداع، ولا تزال المساحات الذهنية للدارسين في الداخل أضيق بكثير من المساحات الذهنية المتجددة لدى الدارسين بالخارج. لا يزال الدارس في الداخل لا يستمتع بالدراسة بشكل يجعله ينهمك في تحصيله الدراسي، وهنا خلل كبير في الاعتماد على نقل المعارف ومن ثم قياسها.

لنعد النظر في طريقة خلق المجتمع المعرفي ودعونا نتشارك في نقاش كيفية خلق تخيل لدينا في تطوير مجتمع إبداعي تخيلي منتج قادر على إنتاج أجيال قادرة على منافسة الأمم والشعوب، ولي عودة!