فضلاً عن أنه يجيد التأثير في المتلقي عبر فن الكتابة بحرفية عالية، يحاول الكاتب الدكتور زياد الدريس التأسيس لتوظيف علم اجتماع الثقافة (Sociology of Culture) في قراءة وتحليل الظواهر الاجتماعية من منظور ثقافي، وذلك من خلال كتابه (قل لي من أنا أقل لك من أنت: كلام في سوسيولوجيا الثقافة) الصادر عن المركز الثقافي العربي (2011)، ويحوي مقالات تتعلق بقضايا دينية وسياسية واقتصادية وذاتية، قسمها كتابه بطريقة مبتكرة إلى خمسة فصول/تساؤلات: لماذا؟ كيف؟ كم؟ أين؟ متى؟

في الفصل الأول (لماذا؟) يفتتح الدكتور الدريس كلامه في سوسيولوجيا الثقافة، بأكثر الموضوعات حساسية وهو الدين. معتبراً إياه "عود ثقاب العالم" مرتكزاً على مفارقة عجيبة هي أن أتباع أي دين دوماً ما يرددون أنه "دعوة للسلام والتسامح والطمأنينة، في الحين الذي نبني معظم اقتتالنا واغتيالاتنا على الدين ومن أجل الدين.. وهذا سيقودنا إلى سؤال كبير، يكبر اليوم أكثر وأكثر: هل الدين يدعو إلى السلام لبني الإنسان كافة، أم إلى الحروب والاقتتال حتى لا يبقى في الكون سوى أتباعه؟!". وفي الموضوع التالي يؤكد الكاتب أنه "كلما ازدادت موجة التدين في العالم ازدادت معها موجة التكفير، أي أنه كلما زاد عدد المؤمنين في هذا الكون زاد عدد الكافرين!" على اعتبار أن التكفير متعة لدى صاحبها لا تتوقف عند حد معين، مستشهداً بالتكفيري المصري عبدالله نهرو طنطاوي الذي بدأ بتكفير الناس المصلين في مسجد بنته الدولة وانتهى إلى استرجاع أدبيات جماعة التكفير اللحظي التي تكفّر الأنبياء على اعتبار أن ببعض تصرفاتهم كفروا للحظات؛ معتبراً أن الفتاوى ـ المعدّة مسبقاً الجاهزة للتحضير ـ مصدر أساسي للتكفير.

ويدعو زياد الدريس إلى توظيف علم اجتماع الثقافة في البحوث والدراسات ولا سيما في السياقات الدينية، من أجل الوصول إلى المشترَك السوسيوثقافي في الطقوس ـ وليس العقيدة ـ الدينية بين بعض الأديان، كالمسيحية والإسلام الشيعي والهندوسية، مقترحاً البحث السوسيوثقافي في كيفية تسلل مثل هذه الطقوس بين الديانات، وينهي الفصل بمقال "حزبنا الله ونعم الوكيل" معتبراً أن الزمن الذي نعيش فيه هو أكثر الحقب اللادينية تديناً!

وربما تزامناً مع الربيع السياسي العربي، يفرد الدريس أول موضوعات الفصل الثاني للتحدث ـ بنكهة ساخرة ـ عن "التنحي" معتبراً إياه في العالم العربي بمثابة إعادة ترشّح، مستشهداً بحكايات عربية كثيرة منها تنحي الرئيس عبدالناصر، ومحمود عباس، ومرشد الإخوان مهدي عاكف، وحكاية تنحي المشير عبدالرحمن سوار الذهب عن رئاسة السودان، بدون عدول، ويعتبرها الأيقونة العربية التي لا مثيل لها.. مختتماً المقالة بأنه ككاتب يفكر بالتنحي لكن ما يجعله متردداً هو خوفه من عجزه عن حشد الضغوط الكافية عليه للعدول عن القرار!

وفي محاولة للجمع بين المتناقضات، تكلّم الكاتب بمقالات الفصل الثاني (كيف؟) عن حركتي كفاية ومش كفاية، وعن الخطاب الثوري والبقري، وعن الشرق الأوسط والغرب الأوسط، ويختتم الفصل بمقال "النكثة" أشار فيه إلى نشوء جيل النكبة 1948، ويليه جيل النكسة 1967، ثم جيل النكثة بوعود السلام الموعود، وأخيراً جيل "النكتة" القائلة بأن إسرائيل لن تسقط بالحروب بل بتخلي الغرب عنها، فمن "النكبة إلى النكسة إلى النكثة إلى النكتة ينشأ الفتيان فينا على قاموس السياسة العربية".

"الأرقام" الحروف الأبجدية للعصر الرأسمالي، هذا المقال هو فاتحة الفصل الثالث (كم؟) مؤكداً أن الحياة حروف وأرقام. الحروف هي قاموس الروح والعاطفة والفكر، والأرقام قاموس الاحتياج والاستهلاك، فقد "هيمنت الرأسمالية وبلغت ذروتها وحدّها الأقصى، الذي جعل الأرقام هي الحروف الأبجدية للعصر الرأسمالي.. لست اشتراكياً، لكني أكره الرأسمالية التي تخيفني من أن أعلن أني اشتراكي!"، وفي مقال الفرنساكوزية يرى الكاتب أن كل شعوب العام تأكل بشهية، عدا الشعب الفرنسي فهو يأكل الطعام بشهوة، وفرنسا هي البلد الوحيد الذي يحظى بامتيازات الرأسمالية والاشتراكية في آن، يعمل وفق النظام الاشتراكي ويلهو وفق النظام الرأسمالي "ولذا يمكن وصف فرنسا بأنها أصدق دولة في عدم الانحياز، إذ هي بلد رأسماكي!"، وفي مقالته "عودة ماركس" يقول الدريس إن الرأسمالية الحالية ليست هي الرأسمالية التي حاول ماركس النجاة منها، مؤكداً أنه يقر بأن "الماركتية هزمت الماركسية"! وفي هذا الفصل كان لا بد للكاتب زياد الدريس أن يروّح عن قرائه بالمقالة الساخرة، ومنها: دولة مفروشة.. للبيع، سياحة مئة ليلة وليلة، اشتر قبرين واحصل على الثالث مجاناً!

ويفتتح الكاتب الفصل الرابع (أين؟) بـ"صنع في الصين: إنهم يعبثون بالأرقام" يستغرب وجود قرابة ألف صيني يقفون على الرصيف ليكتشف أنها ليست مظاهرة، إنهم فقط يعبرون الشارع.. ومع مرور الأيام لم يعد يستغرب تجمع مليون عند مدخل مدينة ملاهٍ! ويرى أن من الانعكاسات السوسيولوجية الطريفة لقانون تحديد نسل الصينيين بمولود واحد لكل أسرة، هو اختفاء كلمات من نوع: أخ، أخت، ابن أخ، ابن أخت.. إذ لم يعد الصينيون يحتاجون للمثل العربي الشهير (أنا وأخي على ابن عمي) فهم يواجهون الغريب مباشرة، وهو ما عمدت إليه الصناعة الصينية في غزوها للأسواق العالمية.

وفي مقال آخر يسرد الكاتب قصة مطاردة طويلة قام بها لعالم الإنثروبولوجيا الشهير (كلود ليفي شتراوس) بدأت من الرياض أثناء دراسة الكاتب الجامعية، وامتدت في موسكو حيث دراسته العليا، وانتهت في باريس بعد عمله مندوباً دائماً للمملكة في اليونسكو، لتقوده الصدفة إلى اجتماع حضره رجل في أرذل العمر، فإذا هو ابن كلود ليفي شتراوس. وعن انقراض اللغة يرى الدريس أنها كالكائنات الحية يمكن أن تنقرض، مورداً اقتراحاً لبعض المختصين بوضع محميات للغات المهددة بالانقراض. ثم في آخر الفصل تبرز بعض المقالات السوسيوثقافية الساخرة: الوانيتزمية، الملوخيزمية.. جمهورية القرار، يقولونات، نون النشوة.

في الفصل الأخير (متى؟) يبدؤه الكاتب بمقال "شيخوخة الشباب" حول تغيرات الأجيال، مؤكداً أن النزعة التشببية ليست مقتصرة على الحالة السعودية أو العربية، متسائلاً: ما الذي يحدث في العالم؟ هل كبرت الأعمار أم صغرت العقول؟ ثم يتبعه بمقال آخر، كل عام وأنتم بغير، يتناول فيه ضرورة التغيير، مؤكداً أن من ضرورة العام الجديد: كل عام وأنت بغير.. إلى أن يختتم بمقال هو العنوان الرئيس للكتاب يشير فيه إلى كثرة وجود اللازمة الشرطية: "قلي كذا.. أقل لك من أنت!"، متسائلاً: ما الذي يدفع الناس إلى اللهاث وراء هذه القوالب الجاهزة للتصنيف، هل هو الإحساس بفقدان الهوية؟