هذا ما سمعته مؤخرا من الدكتور علي الغتيت، أستاذ القانون الدولي والكاتب المفكر، في نهاية إحدى المقابلات المتلفزة، توقفت عند المقولة طويلا، وكأنني أعرفها أو مرت علي من قبل كخبرة، كفعل أو ردة فعل من قبلي، كعادتي.. تشدني كلمة، جملة، أو تصرف ما؛ يأخذني إلى الأعماق لأحاول أن أفهم، لأنني إن لم أفهم سأظل أسمع ذاك الضجيج في عقلي كمحرك قديم يصدر أصواتا مزعجة، ألم يكفني أنني كنت أجاهد لأفهم المقصد من كل ما كان يعرضه من آراء بدت لي غريبة وصعبة التحليل؟ أنهى حديثه بما أجبرني على الاستمرار في التفكير وأنا التي كنت أبحث عن الراحة بعد مجهود يوم طويل!

نحن شعوب عربية، والمعروف عنا أننا نتواصل مع الجانب العاطفي من شخصياتنا أكثر من الجانب العقلاني، نريد في الحقيقة أن نكون عقلانيين ولكن ما يشدنا غالبا العاطفة التي تقبع بين السطور، مع المشهد، دون التأكد من المصداقية أو التوثيق، لمجرد أن الصورة هزتنا أو الخبر صدمنا، نسارع إلى المشاعر لنجعل منها الوقود الذي نهاجم به الآخر، ومن هو الآخر؟ طبعا كل من لا يتفق مع معتقداتنا أو تفكيرنا أو اتجاهاتنا! ما يجري اليوم أننا أطلقنا لهذه العواطف العنان لتأخذ مكانا هاما في عمليات اتخاذ القرارات المحورية والهامة في حياتنا، وأحيانا كثيرة في حياة الغير، معرضين الجميع ـ من ضمنهم نحن ـ لخـطر السقوط في هاوية التجمد، فنسينا أننا يجب أن نحول جل تفكيرنا إلى الداخل، إلى أنفسنا، إلى مجتمعاتنا، إلى أوطاننا من أجل البناء والتجهيز لأي خطر قادم من الخارج.

عندما نحب بعقولنا، هذا لا يعني أن نصبح بلا مشاعر، ولكن يجب ألا نترك مجالا لوسائط أخرى تملي علينا ما يجب فعله، يجب أن يكون لدينا صبر وإرادة على المضي في طريقنا من أجل تحقيق أهداف سامية، ولن يكون ذلك ممكنا إن تقوقعت كل مجموعة منا في خندق، تختلس النظر وتراقب خطوات الآخرين من أجل الانقضاض.

في أقرب فرصة بل في كل فرصة تظهر قضية، وبدلا من البحث عن الحل، تبدأ الحروب الكلامية، وتضيع القضية وكل قضية بعدها، إن كان في جسدنا أشواك نستطيع أن نقتلها بأنفسنا، لو أننا فقط تعاونا من منطلق أننا جسد واحد، من قال إننا يجب أن نطالب بمساعدة الجهات الخارجية لتأتي وتمد يدها للمساعدة، من قال إنهم أصلا يريدون المساعدة ولا يريدون التدخل من أجل السيطرة؟! ولأقرب ما أريد توضيحه هنا أذكر حادثة العنف الأسري التي تعرضت لها إحدى المواطنات؛ قضية حركت الرأي العام وتناولها الكثيرون، ولكن لو تأملنا في مجمل التعليقات، لوجدنا حربا ضروسا ـ ليست في قلب القضية ـ بين معسكرين اتفقا على فظاعة ووحشية الحدث، ولكن أيضا على مهاجمة بعضهم بعضا، كل يطلق التسميات على المعسكر الثاني ويكيل له التهم! وجذور القضية وسبل معالجتها من الأصل أصبحت في خبر كان! نعم كانت مطالبة مجموعة من السعوديات حين أطلقن حملة على صفحة التواصل الاجتماعي "فيس بوك" بعنوان "كلنا فاطمة الشهري" عملا نبيلا ومتوقعا من المرأة السعودية التي لم تعد تريد أن تقف مشاهدة في قضايا تهمها كمواطنة وكإنسان، وكان ذلك واضحا في الأهداف الرئيسة التي وضعت من قبلهن، حيث صرحت إحدى مشرفات الموقع لصحيفة الاقتصادية الإلكترونية بجانب الوقوف إلى جانب الضحية فاطمة من أجل الحصول على كامل حقوقها: "..إنها تسعى مع زميلاتها مستقبلا إلى أن تكون هذه الصفحة منبرا لتسليط الضوء على قضايا العنف الأسري التي يتم تجاهل طرحها إعلاميا على نطاق واسع، أو يتم التعامل معها بأقل مما يجب من قبل الأجهزة الحكومية". مع أنني لا أتفق معها في نقطة التجاهل الإعلامي لقضايا العنف الأسري، بل أجد أن التناول يتم وأحيانا لدرجة التكرار الممل، لأنه ما زال يتعامل مع خبر وليس مع حلول، كما أنني بالتأكيد لا أتفق مع هدفهم الآخر الذي هو حسب ما أضافت نفس الجهة: "أن من أهداف الصفحة أيضا الرأي العالمي وليس المحلي فقط، موضحة أن الفكرة وجدت قبولا لدى كثيرين كان منهم فتيات أبدين تعاونا كبيرا وإحساسا عاليا بالمسؤولية"، وماذا سيفعل لنا الإعلام الخارجي، الذي بالطبع قلبه علينا، ولا يبحث عن أخطائنا بل عن التعرف على هويتنا وثقافتنا من أجل توعية شعوبهم ومساعدتهم على فهمنا للتقرب إلينا؟! وأنا هنا لا أتحدث من فراغ فكم من مرة، اتصلت بي جهات إعلامية من الخارج، لا لتتعرف وتتقرب، بل للبحث عن غسيل كي تنشره، وكم من مرة بتر حديثي ليصبح حديث الساعة سطرا لا أكثر، أو لا يتم نشره أبدا، ومن يجدون لديها القريحة لكي تغرد على هواهم ُتفرد لها صفحات، وتفتح لها المنابر! لا والله وإن كان جسدي ممتلئا بالشوك فعندي أن أزيله بالتعاون مع إخوتي وأخواتي، شوكة شوكة؛ أشرف من أن أسمح لأي جهة من الخارج أن تتدخل في شؤون مجتمعي أو وطني!

لنحب بعقولنا كما نحب بعواطفنا، فالوطن بحاجة إلى تكاتفنا في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى.