أثار التقرير المنشور في مجلة العلوم science لنقد جامعتي الملك سعود والملك عبدالعزيز أصداء ثقافية وردود أفعالٍ أكاديمية حول حقيقة ما نُشر في ذلك المقال عن أوضاع التصنيف للجامعتين بشكل خاص. وقد كان المقال يناقش القفزة الهائلة التي حققتها الجامعاتان في سنوات قليلة لتصعدا من خانات الآلاف إلى خانة المئات في غضون سنوات قليلة، كجامعة الملك سعود، التي حققت المرتبة 261 عالميا لعام 2011 وفقا لتصنيف شنغهاي، وهو تصنيف يعتمد بشكل رئيس على الإنتاج البحثي في المجلات العلمية العالمية. وعلى الرغم من الطابع السلبي للمقال بشكل عام عن الجامعتين، إلا أنه قد احتوى على استعراض لآراء بعض الخبراء الذين عقدت معهم أو عرضت عليهم الجامعتان عقودا من أجل التعاون معها علميا وبحثيا. كان بعض هؤلاء الخبراء سلبيا تجاه الفكرة وينتقدها من زاوية أخلاقية، أما البعض الآخر، فلم يرَ بها أي حرج أخلاقي، وكان سعيدا بهذا التعاون الذي يراه فرصة للمساعدة على انفتاح المجتمع السعودي، وتشجيع وتنمية البحث العلمي في مؤسساته.

والمقال يثير قضية تحتاج إلى مراجعة جادة من الجامعتين بشكل خاص ووزارة التعليم العالي بشكل عام، وهي قضية التميز البحثي والبقاء بين الجامعات الأكثر تميزا عالميا. من دون شك أن القفزة المفاجئة من مرتبة الآلاف إلى مرتبة المئات في غضون سنين قليلة تثير التساؤل عن السر وراء هذه القفزات الهائلة، ثم تثير تساؤلا آخر وأكثر أهمية حول حقيقة وجدارة هذا التقدم السريع وحول قدرة الجامعة على المحافظة على هذا التقدم، إذ إنه من المعروف أن الصعود إلى القمة أمر شاق، غير أن الأشق هو البقاء على تلك القمة. والسياسة التي اتبعتها الجامعتان من التعاقد مع كوكبة من أبرز الباحثين عالميا ناجعة على المدى القصير، بدليل النتائج التي تحققت، غير أنها لا تخلو من إشكالات سواء كانت أخلاقية كتلك المثارة في مقال مجلة العلوم، أو اقتصادية ممثلة في المبالغ المالية الهائلة التي يستهلكها أولئك العلماء، والتي تعني ارتباط بقائهم بأروقة الجامعة ببقاء ذلك الدعم. ثم إن الهدف المفترض والأهم من تلك التعاونات مع العلماء المتميزين، وهو نقل وتوطين التميز البحثي لأبناء الجامعة من الباحثين السعوديين، لا يزال تحت التجربة ولم تُقطف ثماره بعد بشكل واضح.

هذا الهدف الطموح (نقل وتوطين التميز البحثي) يتحقق بشكل أكثر فاعلية ليس عبر هذه الجرعات البحثية السريعة بالتعاون مع علماء مميزين، وإنما يحتاج إلى سنين عديدة من ملازمة لأولئك الباحثين عبر دراسة برامج الماجستير والدكتوراه تحت أيديهم وفي جامعاتهم الأم. والسنوات الدراسية وما يتخللها من تفاعل سواء في قاعة الصف أو في الساعات المكتبية وما يتلقاه الطالب من ملاحظات بحثية وتصويبات منهجية كفيلة بنقل أسس البحث العلمي المميز من الأستاذ والمؤسسة العلمية إلى ذهنية الطالب. هذا يعني أن التفكير في وضع خطة للتميز البحثي لا يتم عبر محاولة نقل الخبرات البحثية إلى الأساتذة الذين تخرجوا بهذه الطريقة العاجلة وإنما عبر خطة تتبناها الجامعة بشكل عام لتأهيل كوادرها الشابة من معيدين ومحاضرين في مؤسسات مرموقة في الإنتاج العلمي. وفي هذا الصدد، من المعلوم أن هناك توجها عاما لدى الكثير من الجامعات السعودية لحصر الابتعاث إلى الولايات المتحدة وكندا، لرؤية صناع القرار في تلك الجامعات بأن برامج الدراسات العليا في الولايات المتحدة هي الأقوى على مستوى العالم. وصحيح أن الولايات المتحدة خصوصا تحتل المرتبة الأولى عالميا من حيث الإنتاج البحثي إذ تنتج ما يقارب 50% من الناتج البحثي على مستوى العالم، إلا أننا يجب أن نضع في الحسبان أن الجامعات والكليات الأميركية تبلغ حوالي 2618 وفقا لبعض الإحصائيات. وليس هناك من هذا العدد الضخم في نادي الأقوى مئة جامعة وفق تصنيف شنغهاي 2011، سوى 53 جامعة. وبالرغم من أن هذا الرقم يشير إلى أن الجامعات الأميركية ترتدي تاج التميز على مستوى جامعات العالم في المجال البحثي كما قلنا، إلا أنه يعني أيضا أن نسبة الجامعات الأميركية المذكورة في هذه القائمة يقارب 2% فقط من مجموع الجامعات والكليات الأميركية، وأن 98% من الجامعات الأميركية خارج القائمة. وفي المقابل، تبلغ الجامعات الأسترالية المنضمة لقائمة الأفضل مئة جامعة أربع جامعات، غير أنها تشكل أكثر من 10% من مجموع الجامعات الأسترالية التي تبلغ تسعا وثلاثين جامعة. وعلى هذا، يحتاج التوجه لابتعاث المعيدين والمحاضرين المنتسبين إلى الجامعات ذات الاهتمام البحثي، إلى التركيز ليس على الولايات المتحدة بشكل خاص، وإنما على الجامعات العالمية المرصودة في نادي الأفضل مئة جامعة من أي دولة كانت، لا سيما أن التوجه العام لدى هذه الجامعات الباعثة هو الدخول في هذه القائمة الذهبية.

وعلى أن الدعم غير محدود من الدولة لبرامج الابتعاث، والمجال مفتوح لكل مبتعث لكي يلتحق بأقوى وأغلى الجامعات العالمية، إلا أن نسبة التحاق الطلاب السعوديين بالجامعات المتميزة، (أقوى مئة جامعة وفق تصنيف شنغهاي، على سبيل المثال) تبدو نوعا ما غير مرضية؛ فالكثير من الطلاب يبحثون عن الجامعات التي تجيزهم بشهادة بغض النظر عن اكتساب المعرفة أو القدرات البحثية العالية. وإذا كان التحصيل العلمي المتميز والترقي في التصنيفات العالمية بجدارة هدفا استراتيجيا لدى الوزارة ومن خلفها الجامعات السعودية، فإن إعادة النظر في الجامعات التي يبتعثُ إليها الطالب السعودي بات ضرورة ملحة. ولو تبنت وزارة التعليم العالي هذا التوجه عبر حصر جميع المبتعثين السعوديين إلى أقوى مئة أو مئتي جامعة على مستوى العالم وفق بعض التصنيفات العالمية المعتمدة، فهذا يعني أن البلد بعد سنين قليلة سيقوم على أكتاف كوادر مؤهلة من أقوى المؤسسات العلمية العالمية؛ كوادر قادرة على التغيير وقيادة البلد في عصر أصبح اقتصاد المعرفة أحد أبرز وأهم سماته. إن الحوافز التي يتلقاها المبتعث السعودي في البلد والضمانات المالية المفتوحة لأقوى وأغلى الجامعات تستحق أن تقنن وتكون مشروطة بالتحاق الطالب بتلك المؤسسات العلمية المرموقة، إن أردنا أن نشعر بأن برامج الابتعاث قد أينعت وآتت أكلها.