تصدر الأشقاء بدول مجلس التعاون الخليجي شرف السبق في احتواء الكثير من مظاهر وأعراض الأزمة اليمنية المتفاقمة، وتوج جهدهم المشكور برعاية الملك عبد الله بن عبد العزيز واستضافته الأخوية مراسيم التوقيع النهائي على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية؛ إيذاناً ببدء الانتقال بهاتين الوثيقتين من إطارهما النظري إلى نطاق الممارسة التطبيقية، واختبار مصداقية طرفي الصراع، والتحقق من إنفاذ بنود التسوية بإشراف إقليمي ودولي متصل.

وخلال مراحل بحث الأزمة ومحاولات الحد من تداعياتها طاشت فرقعات هنا ونشبت اتهامات هناك، وكان من بين ما يخدش الحياء - منها- محاولة التعريض بدبلوماسية وحنكة الأمين العام لمجلس التعاون الدكتور عبد اللطيف الزياني؛ لكنه دفعها بصبر وكياسة الوسيط المخلص تجاه مهمة شاقة أحرز الرجل في سبيلها قسطاً من المواجع شأن أخ له من قبل..

حسناً ها هي ذي صنعاء تلتئم مثل قنفذ عجوز يلتاع حول مدفئة الجهد المشكور ومعها تتحسس اليمن ضمادات الأشقاء، لكن الهواجس ما برحت مكانها تغذيها خبرات الناس وطول معاناتهم من مخاتلات السياسة في بلد لم يعد غريباً عليه أن تعمل كل الأشياء على نقيض بعضها؛ إذ طالما نقض عهد ونكث وعد وانفضّت شراكات، وقال كل في وجه صاحبه (إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين) الآية..

من أقاصي التأريخ يتناهى صوت الملك اليمني المعتمر قبعة الحزن معد ذي كرب.

( تطاول الليل علينا دمون

دمون إنا معشر يمانون)

ومثله تماماً؛ تتململ قوى التغيير وبما هو معلوم في حال كهذه فإن الحرصاء تشغلهم تجاذبات الاحتراب ومصادر تبادل الأعيرة النارية، ولا يعبؤون كثيراً بوضع وتطلعات الأنقياء الذين يتوارون خلف غابة من أغصان الزيتون. ولهذا يكون لكل ذي ثقاب دلال، ولكل حامل عبوة ناسفة شأو في السجال.

الكمال المطلق امتياز إلهي محض وما عدا ذلك جهد بشري يخضع لمقاييس نسبية تقارن حالاً بنظائره أو مادة بمعايير متفق عليها سلباً أو إيجاباً.

غداة هرع الرئيس صالح إلى الخليج بأمل المساعدة في إطفاء الحرائق المشتعلة حول نظام حكمه، لم يكن قد أدرك بعد أن مشكلته مع الشعب أولاً أكثر منها مع أحزاب المشترك ومع قوانين التطور التي يستحيل التكيف معها بعد 33 عاماً من تستنم مقاليد الحكم.. لم يستوعب النظام معنى الثورة عندما تستند لزخم الإرادة الشعبية المستلبة من حق التغيير. وهو كما تجمع التكهنات حدد أطراف المشكلة وأسبابها، وأحسبه كان دقيقاً في الأولى ومموهاً في الثانية، وتبعاً لذلك حددت الخطوط العريضة للمبادرة الخليجية قبل تحولها إلى وثيقة أولى في ملف اليمن المفتوح أمام مجلس الأمن، وإلى جانبها الآلية التنفيذية وقرار المجلس (2014) ، ناهيك عن تقارير مبعوث الأمين العام إلى اليمن..

ما كان هذا ليحدث لولا تذاكي النظام وتلكؤه الواضح عن توقيع المبادرة الخليجية، ولا غرو أن يؤدي التأثر بعناد صدام حسين إلى أوجه تشابه مع نتائج المغامرات الفجة، وكما في الفنون والآداب فإن للذائقة السياسية أمراضها..ولا يغير في الأمر مستوى التواجد الدولي وطبيعته؛ فالدلالة لا تبدو شديدة الاختلاف بين الشيء وظله، الأمر الذي يستدعي إعادة الملف اليمني إلى طاولة الأشقاء، إذ المهم ألا تكون اليمن مدخلاً لمشاريع التقسيم (الشرق أوسطي الجديد).. على أن نجاعة الوصفة الخليجية وتأثيرها الواضح على طرفي الصراع التقليدي بجاهزيتهما للالتئام في حكومة وفاق لا تغني مطلقاً عن الحاجة الملحة إلى رؤية خليجية تشخص أسباب المعضلة ولا تقتصر على تقرير نتائجها.

يقول منطق المرئيات المباشرة إن قابلية أطراف الصراع للاندماج الفوري في السلطة برهان على احتفاظها بعوامل تجانس لا يبدون معها غير طرف واحد، هو فعلاً طرف واحد يستقوي بامتيازاته خلال تسويات مماثلة في الماضي ويحشدها لمواجهة قوى التغيير ذات المصلحة العادلة في المستقبل.. وكنا أشرنا في أوقات سابقة لدواعي منطقية تقتضي استناد القرار الإقليمي إزاء اليمن إلى رؤية معمقة تقف على جذور مشكلاته لا الاشتغال عنها بالعالق على السطح من طفح وبثور..

يتفادى الناس الشدائد باحتمال أقل الأضرار وحين لا تلوح في الأفق بشائر انفراج يكون دعاؤهم (اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن اللطف فيما قضته الأقدار) ، وجرياً على طبائع الناس يكون حال قوى التغيير في اليمن وهي تتوخى من الأشقاء بدول مجلس التعاون المساعدة في تأمين الحياة السياسية من نزعات الاحتكار ومخاطر استدامة الفرص الاستثنائية، والحيلولة دون تصاعد مشاعر الغبن بصورة أكثر مما هي عليه اليوم بعد تحول ثورة التغيير إلى مداخن عدمية تعيد إنتاج الواقع المحتقن، وتذر ملح التسويات على جرح غائر كان الأحرى تطهيره من البكتيريا قبل وضع الضمادات عليه..

أتساءل لماذا يحاذر الإقليم والعالم من مواجهة المشكلات في اليمن لحظة نشوئها؟ أهو عدم الإلمام بها أم التعويل على الزمن لينضج تدابيره إزاءها..

إن تصريحات الأشقاء وتأكيداتهم على وضع الحالة اليمنية موضع أولوية في اهتمامات منظومة دول مجلس التعاون تفتح نافذة للأمل، وتطمئن بأن المبادرة الخليجية ليست آخر الجهود المرجوة؛ قدر كونها المقدمة المطلوبة على طريق التعاطي الشامل والشراكة العميقة في إحلال أسس بناء دولة القانون وتكافؤ الفرص والانفتاح على قوى التغيير، التي يجري استثمار قضاياها الجوهرية العادلة في خدمة صراع مزمن أرسته الأقدار على أطراف لا تستطيع التعبير عن وجودها دون أزمات متواترة تنتج تسوياتها السياسية على حساب إرادة الشعب، وتتوقف مهاراتها – في راهن أحوال البلاد – على خلق فقاعات من شأنها تصدير القلق والتربح به.