قبل عدة سنوات دار نقاش بيني وبين أحد الزملاء المهتمين بالقراءة في التراث والحضارات الإنسانية، حول أهليته ـ كشخص قارئ فقط، دون دراسة علمية أو تجربة ميدانية ـ في إجراء دراسة عن بعض معالم الحضارات الإنسانية في جنوب المملكة. فكان رده، أن ما يدفعه لذلك هو قلة البحوث والدراسات التي تتناول تلك الحقب من قبل الباحثين والمتخصصين في المملكة، وأن معظم ما يطرح سواء في أقسام التاريخ أو المؤسسات الحكومية المهتمة بتوثيق التاريخ والتراث المادي والشفهي لا يتجاوز القرنين الأخيرين (التاريخ الحديث).
والحقيقة أنني أتفق شخصيا معه وربما الكثيرون غيري على ندرة الدراسات الجادة التي تتناول التاريخ القديم لجميع مناطق المملكة التي تثبت الشواهد المادية أنها كانت مراكز لحضارات قديمة، ولذلك نرى تلهف الباحثين والمنقبين عن الآثار "الأجانب خصوصا" على استغلال أي فرصة تتاح لهم للاطلاع على المعالم الأثرية في المملكة، لأن الكثير منها لم يدرس من قبل دراسات عميقة وميدانية جادة، ولذلك فهي تعتبر للباحث كشفا جديدا قد يكون هو صاحب الأولوية فيه.
ومن هنا تكمن أهمية الخطوة التي قامت بها الهيئة العامة للسياحة والآثار مؤخرا وهي إطلاق "مبادرة البعد الحضاري" التي تهدف إلى "تغيير النظرة السلبية تجاه الآثار وإبراز مكانتها" حسب ما ورد ضمن أهداف المبادرة.
ولكن أبرز نقطة لفتت نظري هي ما ذكرته الهيئة حول أن من أهم أهداف الحملة التأكيد على أن أرض المملكة "ليست طارئة على التاريخ وأنها تمثل امتدادا لإرث حضاري عميق بصفتها وريثة لسلسلة من الحضارات". وهو بعد مهم أعتقد أنه كان غائبا عن بعض من يعتقدون أن الاهتمام بتاريخ المكان الممتد لآلاف السنين، قد يؤثر في مفهوم الوحدة الوطنية! وهي نظرة ثبت خطأها، فعندما يتجذر الإنسان (دون عنصرية) في مكانه الصغير (أرض أجداده) فهو في المحصلة يزيد تجذرا وانتماء لوطنه الأكبر.
قد يقول قائل: إننا تأخرنا قليلا في هذا التوجه. وأقول ربما هذا صحيح، ولكن الأهم أن جهة منوطا بها الحفاظ على التراث والآثار وهي "الهيئة" تنبهت للأمر وتبنته بكل جدية، وهذا أمر يدعو للتفاؤل، فالوقت لم يفت بعد، ولكن بالتأكيد أن الجهد لا بد أن يكون مضاعفا.
فمن المهم التخلص من حالة الفتور البحثي "النسبي" في الاهتمام بما قبل التاريخ الحديث من قبل الجامعات والمؤسسات الحكومية ذات العلاقة، فهذا أضاع الكثير من الآثار وأحبط الكثير من الباحثين في الحضارات القديمة.
الأمنية هنا أن تكون "مبادرة البعد الحضاري" بداية لاستغلال اقتصادي وثقافي صحيح للآثار وليست مجرد توثيق هوية.