تأسس مجلس التعاون الخليجي قبل أكثر من ثلاثين عاما، في ظروف بالغة التعقيد، فقد شهدت تلك الحقبة خروج مصر عن دائرة العمل العربي المشترك، إثر توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني، كما شهدت تلك الفترة اشتعال الحرب العراقية الإيرانية، التي شكلت تهديدا مباشرا لأمن واستقرار منطقة الخليج العربي، وطالت بألسنتها بعض دولها. وكنتيجة طبيعية للتحديات التي واجهتها دول الخليج العربي، توصل قادة هذه الدول، في اجتماع قمة عقد بمدينة أبوظبي، في 25 مايو1981، إلى اتفاق بتشكيل مجلس التعاون. وقد تضمن الإعلان الأول للمجلس إقرار صيغة تعاونية بين الدول الخليجية الست، تشمل التنسيق والتكامل والترابط بينها، في جميع الميادين وصولاً إلى وحدتها، وفق ما نص عليه النظام الأساسي للمجلس في مادته الرابعة. وكان الإعلان عن تأسيس المجلس، نقلة نوعية على صعيد تعزيز علاقات التضامن والتكامل بين بلدان الخليج العربي.
وكان الأمل مبكرا، لدى المواطنين الخليجيين، بأن تنتقل صيغة التعاون والتنسيق، إلى حالة أرقى، باتجاه تحقيق المواطنة الخليجية الكاملة، وقيام نوع من الاتحاد الفدرالي بين دول المجلس، بما يعزز الأمن والاستقرار في منطقتنا، ويسهم في الحفاظ على الهوية العربية، ويحقق التكامل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي بين دول المجلس. وكان المحرض على هذا الاعتقاد، هو التشابه الكبير، بين دول مجلس التعاون، في مجالات كثيرة، أهمها تقارب أشكال الأنظمة السياسية، لهذه الدول، والروابط الثقافية، وصلة القربى، والتواصل الجغرافي، والمصير المشترك، بما يجعل عملية التوحيد تأتي في سياق تاريخي وموضوعي.
ومنذ عدة سنوات، جرى الحديث عن توحيد العملة الخليجية، وصدرت بيانات عدة عن المجلس مؤكدة السير الحثيث باتجاه ذلك، كما جرى الحديث عن ترتيبات لقيام الاتحاد الجمركي الخليجي. ولا شك أن تحقيق ذلك قد تأخر كثيرا، بسب جملة من التعقيدات والمصاعب، التي لم يعد استمرارها مقبولا ومبررا، خاصة أن منطقتنا العربية، تتعرض بأكملها، منذ بداية هذا العام الذي يوشك على الرحيل، لعواصف ورياح عاتية، وتحولات رئيسية، من المفترض أن نتهيأ جميعا لمستلزماتها، وللتحديات التي تفرزها، والتي لا مناص من تأثرنا بها، على أكثر من صعيد.
في هذا السياق، يأتي إعلان خادم الحرمين الشريفين في خطابه التاريخي في افتتاح القمة الثانية والثلاثين لدول مجلس التعاون الخليجي، التي عقدت بالعاصمة الرياض، معبرا بصدق عن أماني وتطلعات شعوب هذه المنطقة، والحاجة الملحة لنقل الحلم الخليجي في الوحدة، الكامن منذ عقود طويلة إلى أمر واقع. لقد أوضح خادم الحرمين الشريفين، أن الخليج مستهدف بأمنه واستقراره، وأن مواجهة المخاطر والتحديات التي تواجهها دول مجلس التعاون الخليجي، تتطلب الانتقال من حالة التعاون التي سادت لثلاثة عقود، إلى مرحلة الاتحاد. والهدف واضح وصريح في هذا الإعلان، إنه دعوة لاندماج دول المجلس في كيان سياسي واحد، بصياغات تتسق مع روح العصر، عصر التكتلات السياسية والاقتصادية الكبرى، الذي ليس فيه مكان للضعفاء.
إن الوحدة الخليجية، التي نتطلع جميعا لتحقيقها، هي الرد الطبيعي على التحديات التي تواجه منطقتنا، وهي القانون الذي يستجيب، والذي يطلق عليه المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (التحدي)، وهي الوجه الآخر، لما عبر عنه خادم الحرمين، باليقظة، التي تفرض وحدة الصف والكلمة. وهي التعبير عن حالة الوعي والتصميم، على أن نكون "على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقنا".
الوحدة الخليجية، ينبغي أن تكون نتاج التراكم التاريخي، الذي مضت عليه عدة عقود. وهي خلاصة الدروس التي يقدمها هذا التراكم. فلا يمكن أن نكتفي بما تحقق، مكرسين القول بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فذلك في نتيجته لن يكون سوى نفي للتاريخ ومسيرته، الذي تمثل الحركة والتعاقب جوهر معناه. "فقد علّمنا التاريخ والتجارب ألا نقف عند واقعنا ونقول اكتفينا، ومن يفعل ذلك فسيجد نفسه في آخر القافلة ويواجه الضياع، وهذا أمر لا نقبله جميعاً لأوطاننا واستقرارنا وأمننا"، ولذلك تطالب المملكة، على لسان قائدها بتجاوز مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد في كيان واحد. ما يجعلنا نتفاءل كثيرا في المرحلة القادمة، هو الدعوة الواضحة والصريحة من قبل المملكة لتحقيق الوحدة، وتزامن ذلك بتقديم خمسة ملفات إلى القمة، من قبل وزراء الخارجية والمالية، تناولت التكامل الاقتصادي والمالي الخليجي والاتحاد النقدي ومشاريع قرارات تتضمن قواعد الإدراج المشترك للأسهم والسندات والصكوك، ووحدات صناديق الاستثمار في الأسواق المالية الخليجية، إضافة لتوصية بتشكيل هيئة قضائية كإحدى آليات تسوية الخلافات أو المنازعات الاقتصادية.
الوحدة الخليجية على هذا الأساس، هي نقلة نوعية في وضع مبدأ المواطنة الخليجية قيد التنفيذ. وهي سبيلنا للنهوض والتقدم، وأخذ مكاننا اللائق بين الأمم.
إن هذه النقلة، إذا ما تحققت بعون الله، سوف تؤدي إلى تأسيس جيش واحد، وسياسة واحدة وعملة واحدة، واقتصاد قوي واحد، وخطط تنموية واحدة، وبرامج تربوية واحدة. كما ستؤدي إلى انسيابية تدفق العمالة ورؤوس الأموال الخليجية، من وإلى هذه الدول بما يسهم في تعزيز النمو الاقتصادي، ويسهم في حماية الهوية العربية، ويقلل من فرص الاختراقات الخارجية، التي يمكن أن يتسبب فيها وجود عمالة أجنبية وافدة، غير موازنة مع عدد السكان الأصليين، في عدد من بلدان الخليج العربي.
ومن شأن تحقيق الوحدة الخليجية أيضا، الإسهام بفعالية في تحقيق التقدم، والعيش الرغيد لعموم مواطني هذه الدول، لتصبح وحدة دول مجلس التعاون الخليجي في نهاية المطاف، ليست مجرد جمع لأرقام وطاقات، بل قضية وجود، وسبيل لتقدم خليجنا العربي خطوات واثقة إلى الأمام.