كثيرٌ من نقاشات مجتمعنا ومجالسنا وهموم مدارسنا اليوم تتحدث عن فقد هيبة المعلم أو الوالدين، والدخول في محاكمة أجيال اليوم بأحكامٍ يحفها صراع الأجيال واجترار الماضي وهزليات الركل وألم الجسد، وبعض من عقدٍ نفسية عانى منها البعض أمداً، نحكم دائماً دون العودة إلى إرهاصات كل سلوك، وإلى المشكلة الرئيسة التي تبدأ من الصغر في كيفية التربية ومراعاة الحزم واللطف وما بينهما.
يقول الدكتور سبوك في كتابه "تربية الأبناء في الزمن الصعب": "إن على الآباء أن يفرغوا آذانهم من تلال النصائح التي تلقى في آذانهم في منهجية تربية أبنائهم وليلتفت كل أب وأم إلى إحساسه الداخلي؛ فابنك هو إنسان، وأنت تبتغي سعادته، وسعادته لن تأتي بحصاره في نمط معين من الحياة نفرضه عليه، وإلى هذا فإن سعادة الابن لن تأتي بإطلاق العنان له ليفعل كل ما يريده، ولا أن تصرخ في وجهه عند أدنى بادرة للخروج عن السلوك المطلوب. إن الأب المحب، الحازم الحاسم، المتسامح من دون تزمت هو الأب الذي يعرف أن إحساسه يتجه إلى تربية ابنه بالتفاعل لا بالقهر، وبالتفاهم لا بالقسر، وبالحنان لا باللامبالاة ".
أطفالنا يضيفون لمساتٍ من الطهر، وخيالاً كبيراً من السحر والجمال تجعلهم يعيشون حالةً عاطفيةً متوهجة نحو والديهم ومعلميهم، حتى إننا نجد بعضهم مفرطين في تصور الفضائل مجتمعة كلها بتنزيه عن العيوب و إلصاق الفضيلة بهم، يتطلعون دائماً بمشاعر ممزوجة بالود والعطاء والاحترام نحوهم، ينظرون دائماً لهم بأنهم يمتلكون عصا سحرية، بل وكأنهم يتحكمون بالعالم بأسره، لذلك من الطبيعي تماماً أن نجد الطفل يجعل أباه مثله الأعلى، فتجده يحاكي أباه، يحاول أن يتمثل أسلوبه في الحياة، يستمتع بتقليده محاولةً منه للانتقال إلى مرحلة عمرية أكبر، والبنت في المقابل تعشق أن تكون أمها المثل الأعلى بدءاً من دخول المطبخ والعبث بأدواته وصولاً لألوان (الطهر) الملطخة على الوجه من أدوات التجميل!
وما لا يعرفه الكثيرون أن الأطفال يتقبلون (تعليمات) الأب والأم بمنتهى الحب والرغبة في تنفيذ وإنجاز مهام يراد تنفيذها! لكن السؤال المفصلي هنا: كيف كان أسلوب الأب أو الأم عند طرح تلك التعليمات أو طلب شيء ما من الأبناء؟
يقول الدكتور الأميركي لورانس شابيرو: "إن كان طفلك فرش الأرض بلعبه الكثيرة أو بأوراق متناثرة فإن أفضل ما يمكن قوله: هيا نجمع لعبك معاً، النتيجة عندما تبدأ معه في جمع الألعاب أو الأوراق سيبدأ الطفل فوراً في مساعدتك هو والانصياع لما طلبت ومعالجة الموقف".
كثير منا للأسف يصدر أوامرَ عسكرية تتأرجح بين الاستهجان والعصبية، ومنهم من تثور ثائرته بالصراخ والكلمات التي تزيد من سلوك العصيان لدى الطفل، وتنقله إلى دائرة التعنيف، عندها نستغرب لماذا يرتبك الطفل منغمساً في دائرة تخيل تقوده بين أنه شخص غير مرغوبٍ فيه، أو أن أباه وأمه قررا أن يتخليا عنه أو أنهما يقاومانه بنفي حبه والاهتمام به، ولهذا فإن ذلك الارتباك يؤدي إلى عناد ومقاومة لعدم تنفيذ الأمر الصادر عن الأب والأم ، ثم نبدأ في إطلاق أحكامٍ لا رجعة فيها بأن الابن لا يطيع ولا يسمع وعنيد و..!
ولأن الطفل إنسان (صغير) نتناسى حينها أنه يملك من العاطفة والخيال ما لا نعتقد، فهو مثلنا تماماً، فكيف نريد من رؤسائنا في العمل أن يطلبوا منا تنفيذ عمل ما، بكل تجهم وزجر وفوقية غريبة؟
إن المراقبة الحنونة للطفل، والكلام بهدوء معه، والتوجيه المليء بالثقة، والتوجيه اللين الممزوج بالمنطق، وعدم منع الطفل من فعلٍ إلا بعد الدخول معه في حوار يلمس من خلاله بلطف وحزم عند الحاجة متجنبين التوبيخ و القذائف... كل ذلك يساعد الأب والأم على الاستمتاع بالساعات التي يقضيانها مع الطفل.
وينطبق ذلك تماماً على التعامل داخل أسوار مدارسنا وجامعاتنا، بدلاً من التجهمات الحقيقية من بعض المعلمين والمعلمات داخل قاعات الفصول الدراسية، وكأن الحوار وطلب تنفيذ التعليمات بلغة راقية ضعف شخصية أو هيبة ضائعة.
تربية الأبناء في عصر المتغيرات الحياتية، وفي ظل الضغوط النفسية المنعكسة عن زيف مدنيات هذا القرن أمر ليس سهلاً بالفعل، ولكن إن أردنا جيلاً حرّاً فعلينا بالحوار الراقي والحزم واللطف، وأن نبدأ في نبذ إفرازات ثقافة (لك اللحم ولنا العظم) التي ما زال البعض يجمع على أنها مربط الفرس الذي هرب منا، وينادي بتلك الممارسات البائدة وعودتها إن كان على مستوى الأسرة أو المدرسة أو المجتمع!