لطالما كُنت حريصا أشد الحرص على حضور الملتقيات الثقافية وخصوصا ملتقى المثقفين السعوديين في دورته الثانية، وبالرغم من متابعتي المستمرة إلا أنني لم أسمع بالملتقى إلا قبل أسابيع فقط من انعقاده ليس على غرار مهرجان "أم رقيبة" لمزايين الإبل، ولكن بعد سؤالي قالوا إن الدعوات محددة وليست عامة يبدو أنها علة التكاليف المالية، فكان سؤالي الثاني هل يمكنني الحضور "على حسابي"؟ كانت الإجابة: للمدعوين فقط.. لم أكتفِ بذلك بل حرصت على الاتصال ببعض زملائي المثقفين الذين حضروا الملتقى للتعرف على ما دار فيه من أحداث تناسب هذا الكرنفال الثقافي لتكون الإجابة الحزينة "أحسن يا علي ما جيت!" وآخر همس في أذني بصوت خافت "ودي أدور على أقرب طائرة لكن ما في رحلات!".
قصة "الكراسي الفارغة" في الملتقى هي العنوان الأبرز في وسائل الإعلام فكانت حكاية "الألف مثقف" في مجتمع يبلغ عدده من 20 إلى 25 مليونا، وفي قصة ثانية لا تقل شجونا عن الأولى وهي قصة استنساخ عناوين الملتقى الأول ليكون الحصاد في سلة من الندوات والمحاضرات المكررة التي تُلقى على مسامع المثقفين، وعن أزمة التنظيم التي كان يتحدث عنها جموع المثقفين فصل آخر، ولا أخفيكم أن هناك إيجابيات سمعتها من تبادل للحوارات الجانبية الخفيفة والابتسامات في ردهات الفنادق، وكذلك عرض فيلم رائع بعنوان "ظلال الصمت"، ولكن ما لبث أن انتهى الفيلم الذي يحكي عن تكريم الأموات حتى قام أحد المثقفين الأفاضل مستنكرا ومصدوما قائلاً: (أين الدكتور محمد عبده يماني)؟ إنه يقول في أحد لقاءاته التلفزيونية لماذا التهاون في طرح هكذا أسماء! ناهيك عن غياب كوكبة كبيرة من الأسماء الحية اللامعة والمعروفة في عالم الثقافة السعودية!
لعل البعض يُعلق علي لماذا هذه الصورة القاتمة للمشهد الثقافي ولماذا هذا الاختزال السلبي؟ الجواب: نعم الجميل موجود في جزئيات الملتقى وهذا ما قاله جموع الحاضرين في الملتقى لكني عندما أنظر إلى لوحة جميلة أنظر إليها بكل شمولية وليس التحديق في جزئية أو جزئيتين. إنني أتصور أن هناك عدم اختمار لمفهوم المثقف في أذهان الكثير فما زالت النخبوية مسيطرة وهذا ما انعكس على الملتقى الثاني فالمثقف ببساطة وبعيدا عن اللغط الفكري هو ما قاله "غرامشي" (كل إنسان مثقف وإن لم تكن الثقافة مهنة له)، وهكذا يتسع مفهوم المثقف ليشمل الجميع وخصوصاً فئة الشباب والجامعيين الذي يُعدون مؤشرا للحالة الثقافية لأي مجتمع يريد النهوض.
نعم العلاقة قد تكون متشابكة ومعقدة بين المثقف والمجتمع ولكن لا ننسى أن الملتقى الثقافي السعودي كان في نهاية 2011، هذا العام الذي يُعد الأكثر طولا على الإطلاق، ليس بتسارع وتيرة التغيير العاصف في بداياته ونهاياته والضارب في أركان وطننا العربي، بل بحجم الأثر الذي سيتركه لاحقا، وبالمفاهيم الثقافية التي يُرسيها، وأولها سقوط فكرة الانسان العادي الذي طالما تحدثت باسمه النخب الثقافية، فأصبح الصراع الثقافي مكشوفا وعلى مرأى الجميع، ليس في الصالونات الثقافية أو في القاعات المغلقة فقط، بل في كل مكان في مواقع التواصل الاجتماعي، والفضائيات، فالكلمات التي تصدر من الإنسان العادي حتى وإن جاءت تأتأة، ساخرة، ولكنها تأتأة تهز وتزلزل، وتنزل على النخبة كالصفعات تحمر فيها الوجوه وتنتفخ الأوداج وبالنتيجة ليس المهم ماهية الفكر الذي سيسود بعدها أهو ليبرالي أم إسلامي أم وسطي أم يميني أم يساري أم "بطيخي".. المهم أن جميع الأفكار توضع الآن على المحك والعاصفة لن تهدأ قريباً. ختاماً أقول: قد يتعملق الإنسان بفكره وثقافته بتدبيجه الكلمات الناعمة التي تُضفي صورة بهية على المشهد، ولكن في واقعه يبقى مترنحا عندما لا يلتفت إلى واقع الحياة وتلبية ضروراتها ومواكبة احتياجات الناس فيتحول إلى إنسان محنط يضيق به الناس يوما بعد آخر فيفقد بريقه ولمعانه.