لم يكن ملتقى المثقفين السعوديين سوى انتفاضة جسد هزته حمى الاختيار، لتنقيه من موجة هائلة أوغزوة عنيفة "لفيروسات" مفعمة بالاقتحام عبر التودد المتلاقح بثقافات متواترة تندد بموجة غاضبة من الانفلات المعرفي إن جاز التعبير.
وفي عالمنا اليوم كنا ولا نزال نحمل شمعة شاحبة تودداً لغياهب الخطاب الممتلئ والمفعم بالخطاب النخبوي الذي لا يفقهه سوى ناطقية، أما متلقوه فها هم يحملون شموعهم الشاحبة فى غياهب المفازة.
لقد حمل الملتقى على كتفيه رسالة هامة وفي خرجه ألف مثقف وفدوا من كل صوب وحدب، وكل يحمل بين ذراعيه أوراقا مطوية يقرؤها في تؤدة وحذر مريرين خوفا أن تفوته نقطة قد وضعها أو كلمة قد سطرها حريصاً حرص أشعب أن تفلت منه فاصلة أو همزة، وكأن قوم الضاد والنون قد تحولوا فجأة إلى قراء يتلون ما أسعفتهم به ضالة القلم في ليلة قضاها الفرد منهم يمزق ويسطر ويعيد ويزيد إلى أن منّ الله عليه بكلمات مبعثرة يحاول ترتيبها ثم يقذفها لمتلق منصرف لا يلوي على شيء سوى حجز دوره مسبقا في ورقة المداخلات، إنه حجز مسبق وقبل بدء الجلسات رغبة منه بدور في امتلاك ناصية "المكرفون" إمعانا في انتفاضة محمومة بذات تبحث عن الأنس ليس إلا. أما جماعة المتلقين فقد تراصوا صفوفا يتململون ضيقا من هول اللحظة القاتلة في سأم الإيقاع القاتل الذي تضيق به الصدور، والحصيلة هي تساؤلات وأسئلة لم تجد لها صدى سوى منصة اختصت بأغلب الوقت في استعراض ذاتها لكي تمعن في تلمس ساعاتها ودقائقها لتنتظر انفلات الزمن، فكانت النتيجة كاتبا ومنصة ومتداخلا يسبحون في سيل هلامي من الغربة المعرفية في تداولات الخطاب.
من أين أتت إلينا هذه اللحظات التي لا نسمع من خلالها سوى أزيز المقاعد تململا وسأما من وقت أهدرته المنصة في قراءة أوراق هي في ذاتها كلمات تحتاج إلى إعادة صياغة؟
ها هي وزارة الثقافة والإعلام قد وضعت المرآة أمام الذات المثقفة لتتفحص ذاتها، ربما لتعيد النظر مرة أخرى فيما يمليه عليها ضميرها أمام الله ومصلحة الوطن، فلا تجد سوى مرآة متشظية تعكس صورة حقة لذاته الباحثة عن الظهور وشهوة الاعتلاء والتعالي، فإن ما تعانيه ثقافتنا اليوم هو تلك الهوة بين خطاب نخبوي متثاقف وبين همّ جمعي يتلمس الطريق، لا يلوي على شيء سوى الانزواء أحيانا أو الانسحاب أحيانا أخرى، وإن اشتدت به حمى المعرفة نزح بعيدا لتتسم معطياته بثقافة النزوح إما المكاني أو الزماني عبر عالم افتراضي فرضته علينا ساحات الخطاب العالمي الجديد بحثا عن ذاك الأنس المعرفي وبحثا عن الاختيار، وبحثا عن ذلك النسق في اتساق تام مع ذاته أولا وقبل كل شيء، ثم اتساق ذلك النسق الثقافي وثقافة واقعة في حالة من التواؤم التام بين كل هذه الدوائر المعرفية في تماس دائم وأنس معرفي، فتتسع الهوة بين مثقفينا، بين الذوات الهائمة الباحثة عن الأنس.
ولذا وجب على علماء الخطاب البحث الدائم عن الأنس المعرفي في الخطاب وآلياته، فالأنس الدافق يؤنس ثقافة العصر ومبدعيه، وبالتالي يندمج الفرد في تلك البنية المجتمعية في إطار واحد إذا ما اعتبرنا النخبة هم علماء هذا الطرح. لهذا يبرز دور العلماء والانتليجنسيا في تحقيق تلك المهمة حين لا تجد الثقافة طريقاً للغربة، لما يحظى به المتلقي من معارف متماسة مع وجدانه وعقائده ومع ثقافة يعرف كنهها، كما أن لغة الخطاب تسري في وجدانات المتلقين عبر ثقافة نخبوية غير متعالية الخطاب. فالاعتراف بعلم الخطاب وسبر أغواره له قيمة اجتماعية وقيمية وثقافية غالبة، فلا يستقيم الأمر إلا بقيمة خلقية يحتمها مرور العلماء من الشتات والتشرذم إلى التآلف والاتحاد، ومن التناحر إلى التعاون، ومن الهراش في الشارع إلى الحوار الهادئ داخل المؤسسة، وهي فضيلة التآنس كما يقول ابن خلدون.
ولذا كان الأمر يعود برمته إلى العلماء في دور الاتصال، والاتصال لا ينتهي بنهاية إلقاء الخطاب، بل هناك أمر هام وهو التواصل بعد الاتصال، وهذا أهم ما في الأمر، كما أن دور التخصص أمر هام في مدى مصداقية الرسائل الثقافية، ومدى قرب وبعد المتلقين من مرسلي هذا الخطاب ودرجة وعيهم، وعبر أي قنوات يرسلون وما هي آليات هذه القنوات في محيط التلقي، ومن هذه القنوات الهامة الملتقيات، والمؤتمرات، والندوات، وما تؤديه من وظيفة وتأثير فعال في سيكلوجية المتلقي.
وبطبيعة الحال تختلف القناة المرسلة باختلاف وظيفتها، ولذلك اختلف الأمر في هذا الملتقى حيث كانت ماهيته هي "ملتقى المثقفين السعوديين" يتدارسون فيما بينهم أمور الثقافة ومداراتها في مائدة مستديرة تطرح فيها كل الهموم وكل القضايا في نقاط حددت مسبقا، ثم تناقش بعد الاطلاع مسبقا على أوراق أعدت خصيصا لهذا الغرض دون إهدار للوقت في قراءتها، ثم طرحها على المتلقين من العامة للمناقشة النهائية، تمهيدا لتوصيات تثمر في بناء الثقافة طرائقها، إلا أننا وجدنا الأمر قد تحول بقدرة قادر إلى ندوات من النخبة للعامة وبدون مراعاة للفرق بين الندوة، والملتقى، أو المؤتمر، وبدون مراعاة لسيكلوجية المتلقي العادي غير النخبوي، فتضيع الرسالة في المفازة والكل متيم بشهوة الظهور واعتلاء صهوة الفكر، وكانت الحسنة الوحيدة لهذا الملتقى هي تبادل الكروت وأرقام التلفونات، أما الهدية الثمينة الكبرى التي أهدتها لنا وزارة الثقافة ووزيرها المثقف الواعي فهي تلك المرآة المتشظية التي تعكس الصورة الحقة، في غياب كامل لناقد يُعمل مشرطه الدقيق في جدوى هذه الرسائل من عدمها، لنكون قادرين على الاختيار وتنجو الثقافة من المفازة، فكل الشكر لوزارة الثقافة.