قبل أكثر من ثلاثين عاماً دخلت المملكة في سباق مع الزمن لتوظيف عائدات الطفرة المالية الأولى، إثر صعود أسعار النفط، في إنشاء البنية التحتية القادرة على الاستجابة لمتطلبات المرحلة.. ودفعت باتجاه تشجيع الشركات والمؤسسات الوطنية لتطوير إمكاناتها والرفع من كفاءة أدائها، كما شجعت الأفراد على تحسين مستوى حياتهم من خلال صناديق الإقراض التي فتحت أبوابها مع توفر الثروة المصاحبة لتلك الطفرة.. والآن تعيش المملكة طفرة مالية أخرى أكبر من السابقة مع افتراض تحسن كفاءة الجهاز الحكومي وتطور إمكانات الشركات الوطنية وزيادة مشاركة أبناء الوطن في إدارتها، وهذا يعني، أنها أكثر تأهيلا من ذي قبل لاستغلال عائدات الطفرة بصورة أكثر نضوجاً واستمرارية. والمشاهد أن غالبية مشاريع البنية التحتية التي أنشئت في الطفرة الأولى باتت اليوم في حاجة إلى التجديد وإضافة مشاريع جديدة تنفذ بمستويات أرقى من التي تمت في الطفرة الأولى، يوم كانت الأجهزة التنفيذية والرقابية أقل إمكانات وأضعف تأهيلاً وكفاءة.

ومن أكثر القضايا اتصالا بحياة الناس المباشرة مسألة السكن التي تؤرق غالبية الأسر السعودية، إذ تواجه مشكلة إسكان جيلها الجديد المقبل على الزواج في ظل ارتفاع الإيجارات غير المتناسبة مع دخول الناس وفي ظروف البطالة المتنامية وارتفاع الأسعار المتصاعد.. وترتبط حلول مشكلة السكن بقطاع مهم هو القطاع العقاري الذي يشهد طفرة سعرية جعلت الشباب يتوقفون عن التفكير في اقتناء المنزل الخاص. ويتوقع أهل الخبرة أن يشهد هذا القطاع نمواً مطرداً في الأفق المنظور مع الوفرة المالية الحالية وزيادة أعداد المحتاجين للسكن وتضاؤل نسبة المواطنين المالكين لبيوتهم.. وحتى يمكن لهذا القطاع أن يسهم في فك الاختناق فهو محتاج إلى دعامتين أساسيتين ـ بدونهما لن يتمكن من تحقيق أهداف التنمية المتوازنة التي تخدم المواطنين ـ هاتان الدعامتان هما: المرجعية القانونية التي تراعي متطلبات المرحلة وتضع التفاصيل الحاكمة للعلاقة بين العاملين فيه من ملاك ومستثمرين ومقاولين وبيوت تمويل وأفراد. ونظام مالي يوفر التمويل اللازم لمشاريع القطاع على مستوى الشركات والمؤسسات والأفراد. كما يمكن لهذا القطاع أن يلعب دوراً مهماً في مسألة "توطين" الوظائف إذا توفرت الوسائل المساعدة على ذلك مثل إنشاء مراكز ومعاهد تدريب لتخريج الكوادر الوطنية التي تستطيع التعامل مع احتياجات القطاع إلى جانب توفر مراكز الأبحاث والدراسات الميدانية حتى يخرج قطاع العقارات من مرحلة "الدكاكين" التي كان يتسلى فيها الموظفون آخر النهار إلى مرحلة المؤسسات المتخصصة القادرة على توفير احتياجات الناس وتطوير رغباتهم واستشراف مستقبلهم.. دون هاتين الدعامتين سيظل هذا القطاع في حال من عدم الاستقرار والنجاح.

هناك شكاوى متكررة من تأخر تنفيذ المشاريع وسوء التنفيذ مع ارتفاع التكاليف، مما أدى إلى تراجع مواكبة مشاريع التنمية لاحتياجات الناس في المدن الكبرى والتي تعاني من الزيادة المطردة في السكان.. ولا شك في أن المشكلة اليوم ليست مشكلة مالية فقد وفرت الدولة ميزانيات ضخمة للمشاريع المتعلقة بالبنية التحتية، (تتحدث الأرقام عن 400 مليار ريال سنوياً لمشروعات البنية التحتية حسب تقدير الخبراء) فما هي يا ترى المشكلة؟ وأين الخلل؟

يلاحظ أصحاب الخبرة من المهندسين والمقاولين والمكاتب الاستشارية أن أهم المشاكل تكمن في انعدام التنسيق بين الجهات المسؤولة عن المشاريع وعدم الإعداد الجيد لمتطلبات المشاريع قبل الشروع في التنفيذ، وضعف الجهاز الحكومي الفني وارتكابه الأخطاء في حساب التكاليف ثم الاعتماد على مقاولين غير مؤهلين من حيث الخبرة والكفاءة البشرية والملاءة المالية. إلى جانب الخلل في إعداد المواصفات الدقيقة للمشاريع قبل طرحها (بعض المشاريع الكبرى يتفاجأ المجتمع بطرحها والمطالبة بإنجازها بأسرع وقت فتربك سوق العمالة ومواد البناء) وعدم توفر المواقع الخالية من المعوقات التي تؤخر التنفيذ (الاختلاف على الملكية وطلبات التعويض الكبرى وخرائط تمديدات الخدمات الأخرى) وتأخير مستحقات المقاولين بالكثير من (الحجج) التي يبدو بعضها كأنه يهدف إلى تعطيل المشروع.

وأعتقد أن تنفيذ المشاريع الكبرى وضمان جودتها يحتاج إلى توسيع دائرة الشركات العملاقة في مجال المقاولات، بدلا من شركتين أو ثلاث، تستطيع أن تواكب عامل الزمن الذي يلح على الأجهزة الحكومية المسؤولة عن تنفيذ مشاريع البنية التحتية فتضطر إلى الاستعانة بشركات أجنبية لديها القدرة والخبرة لإنجاز مشاريع عملاقة في زمن قصير.. وهذا التوجه يحتاج إلى دعم ضمن "برنامج وطني" يشترك فيه القطاع الحكومي مع القطاع الأهلي لتشجيع "اندماجات" وتكتلات لديها الملاءة المالية والإمكانات البشرية التي تستطيع بها المنافسة مع الشركات الأجنبية الداخلة إلى أسواقنا.. والقطاع الحكومي مطالب بأن يشجع المقاول المحلي على الدخول في المنافسة الحقيقة، وهذا يحتاج إلى رؤية سياسية ملزمة شريطة ألا تفرط في "الجودة" والمنافسة السعرية.

وهناك تجربة دولية تستحق التأمل هي التجربة الصينية، التي تعد مثالاً جيداً لدعم الشركات الوطنية، فالصين من الدول التي تقدم معونات إلى بلدان العالم الثالث – في أفريقيا بشكل خاص – لكن هذه المعونات لا تتم من خلال أموال نقدية تنتهي إلى جيوب المتنفذين في الأنظمة والحكومات بل تذهب إلى مشاريع متصلة بحياة الناس (مستشفيات – طرق – مدارس – قاعات صداقة) ويتم تنفيذها بواسطة الشركات الصينية. وبهذا يستفيد الاقتصاد الصيني من خلال تطوير قدرات مقاوليه و"تدوير" رأس المال الذي يعود جزء منه إلى الاقتصاد الوطني.. والمملكة من كبريات الدولة المانحة، إما من خلال العلاقات الثنائية أو من خلال الهيئات والمنظمات والصناديق الدولية، ويمكنها أن تدفع بالمقاول السعودي إلى مضمار المنافسة على المشاريع الخارجية من خلال هذه البوابة.