في القراءة النقدية لحركة اليقظة العربية، التي بدأنا بها في الحديث الذي مضى، تحت عنوان "مشروع اليقظة العربية: نحو صياغة جديدة للمفاهيم"، أشرنا إلى أن حركة اليقظة بقيت رهينة لتوترات وتفاعلات للّحظة التاريخية. لقد أمست رؤيتها تجاه الدولة الوطنية، سلبية ومتأثرة بنتائج اتفاقية سايكس- بيكو التي قسمت المشرق العربي إلى مناطق نفوذ بين الفرنسيين والبريطانيين. وأيضا لوعد وزير الخارجية البريطاني، آرثر جيمس بلفور بمنح وطن قومي لليهود في فلسطين. وكانت النظرة السلبية من قبل رواد حركة اليقظة للدولة الوطنية هي أول معضلة نظرية واجهتها هذه الحركة.

هناك أيضا الارتباك في النظرة لمسألة الأمة بين دعاة العروبة في مشرق الوطن العربي ومغربه. وقد بقيت تأثيرات ذلك ماثلة حتى الآن. وتعود حالة الارتباك هذه لاختلاف طبيعة التحدي الذي واجهته الشعوب العربية. ففي المشرق، كان النضال الوطني "قوميا" خالصا. لقد انبثقت العربية، لغة وثقافة من المشرق، حيث سبقت بزوغ الإسلام بوقت طويل. وكان القرآن الكريم قد نزل بلغة الـعرب. وببلوغ الـفتح العربي بلاد الشام ومصر، اعتنق معظم السكان الدين الجديد. لكن نسبة منهم حافظت على عقائدها الأصلية.

استمرت العربية، عاملا مجسدا للوحدة الوطنية بالمشرق العربي، وبقي ذلك حتى إبان الحروب الصليبية، وبعد سقوط الدولة العثمانية، ومواجهة العرب للاستعمار الأوروبي التقليدي. وكان رفع المصريين لشعار "يحيا الهلال مع الصليب"، تجسيدا عمليا لبقاء العربية، عاملا توحيديا أصيلا لهذا الشعب.

علاوة على ذلك، فإن تعرض الهوية العربية دون الإسلام، بالجزء المشرقي من الأمة، أثناء العهد العثماني، للتخريب، لم يوجه الكفاح ضد المستعمر وجهة دينية. لقد اتحد المشارقة جميعا في مواجهة العثمانيين. ولذلك لم يكن مستغربا أن يكون معظم زعماء اليقظة من المسيحيين، كونهم ضحية اضطهادين: ديني وقومي.

في بلدان المغرب العربي، تداخلت المعاني القومية والدينية بالنضال الوطني. وذلك منطقي جدا، فهذه البلدان، تمتعت بحكم سياسي شبه مستقل، بعيدا عن تأثير السلطان العثماني. وتجسدت معاناتها، وبشكل خاص الجزائر في خضوعها فيما بعد، لاستعمار فرنسي استيطاني عسكري مباشر، قل أن يوجد له نظير في وحشيته وشراسته. وقد تعرض لمقاومات الشعب وتخريب ثقافته، وفي المقدمة منها معتقداته الدينية، فكان أن تداخلت المعاني الدينية والوطنية، في الكفاح من أجل الاستقلال.

هذا الموقف يجد جذوره أيضا بالتاريخ، في طريقة تعريب هذه البلدان. ففي حين اكتسبت بلدان المشرق، العربية لغة لها قبل الإسلام، فإن انتشار العربية بأقطار المغرب ارتبط بالإسلام، الذي جرى اعتناقه أولا، ثم لحقت ذلك عملية التعريب. العروبة في المغرب العربي، على هذا الأساس، جاءت ملحقة بالإسلام، الذي احتل مكانة رئيسية في بناء التجربة المغربية، وارتبطت به ثقافة المجتمع وطقوسه. وكانت عملية الصهر بالمجتمع، إسلامية بالدرجة الأولى. ونتيجة لذلك، لم يرق شعور هذا المجتمع بالعروبة إلى مصاف الشعور بالإسلام. بل نشأ في الوعي أنه لا يمكن إدراك العروبة إلا من خلال الإسلام، وليس بمعزل عنه.

وقد خلق التنوع القومي المغاربي، حاجة ملحة لأيديولوجيا توحيدية، تجمع العرب والأمازيع، الذين حافظوا على لغتهم، ولم يلتحقوا بعملية التعريب. لقد بقيت الازدواجية العرقية والثقافية في البلاد. وظل الإسلام وحده القادر على الجمع بين المتكلمين بالعربية والناطقين بالأمازيغية. علاوة على ذلك، أدى غياب التنوع الديني في بلدان المغرب العربي، باستثناء اليهود الذين نأوا بأنفسهم، عن الاندفاع لرابطة العروبة، ولم يندمجوا مع الأغلبية الإسلامية. لقد أسهم ذلك في تفاعل وتعايش الإسلام والعروبة جنبا إلى جنب.

هذه الفروقات في النظرة للأمة، بين المشرق والمغرب خلقت معضلة نظرية في فكر حركة اليقظة العربية، لا تزال تعاني منها، رغم جهود أكاديمية بذلتها بعض المراكز العلمية، لصياغة موقف نظري عن العلاقة بين الإسلام والعروبة.

المعضلة في جوهرها، تكمن في الإطار النظري الذي انطلقت منه حركة اليقظة. فكما كان التنظير منفعلا ومرتبكا بالنسبة للموقف من الدولة الوطنية، بالشكل الذي ناقشناه في الحديث السابق، فإن الموقف من العناصر التي تشكل الأمة، هي الأخرى ظلت مرتبكة وقلقة ورهينة لتوترات اللحظة التاريخية.

ارتبطت العروبة، كما نظر لها ساطع الحصري، باللغة التي أصبحت ركنها الأساس. أصبحت العناصر المكونة للأمة هي اللغة والثقافة والتاريخ المشترك. ورغم ما يبدو في هذا الترتيب من اختلاف في العناصر، لكنها تحيل جميعا إلى عنصر واحد هو اللغة. فالتاريخ المشترك يحيل إلى تاريخ الناطقين بالعربية، والثقافة المشتركة تحيل إلى ذات المعنى. والنتيجة أننا أمام عنصر واحد فقط مكون للأمة هو عنصر اللغة. أما الدين فلم يطرح في الكفاح ضد السلطنة العثمانية، لأنه من جهة، جامع بين المحتل وقوة الاحتلال. ومن جهة أخرى، فإن رواد النهضة العربية، لم يكونوا في الأساس معتنقين للإسلام، بل كان جلهم من المسيحيين. إضافة إلى أن دمج الإسلام، كعنصر من عناصر القومية، يعني نفي انتماء غير المسلمين للأمة العربية، وذلك ما يتعارض مع الأماني والتطلعات القومية التي حكمت مسار معركة الاستقلال عن الحكم العثماني.

والنتيجة أن زعماء اليقظة وجدوا أنفسهم أمام تصورات مختلفة لمفهوم الأمة. ففي المغرب امتزج هذا المفهوم بالإسلام. أما في المشرق، فإن المجابهة مع الأتراك دفعت إلى التركيز على معادلة العرب مقابل الأتراك. يضاف إلى ذلك، أن مسألة وحدة العرب، في هذا الفكر ظلت مؤجلة، لدى المفكرين العرب في الشطرين المشرقي والمغربي، ولم تطرح بوضوح، وتأخذ شكلا أيديولوجيا إلا في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي. لقد استمرت معضلة ارتباك المفاهيم قائمة حتى يومنا هذا، وبقيت مؤشرا على ضعف في بناء فكر حركة اليقظة. ولعل الوعي بحالة الارتباك في هذا الفكر، يسهم في التعرف على بعض أسباب تداعيه.

إن اقتصار عناصر تكوين الأمة على مكون واحد، هو اللغة، أعطى وجاهة لوصم حركة اليقظة بالعنصرية والشوفينية. وقد أسهم التركيز اللاحق على مسألة في تغييب العناصر اللازمة الأخرى لمشروع النهضة.

حان الوقت لتقديم مراجعة نقدية عميقة لفكر النهضة، بما يعيد الاعتبار له ويسهم في صياغة عروبة جديدة، في عصر كوني سمته أنه عصر تكتلات كبرى، وحسابات رياضية عقلية، واقتحام بقوة واقتدار لبوابات التاريخ. هذه العناصر ستكون موضعا للمناقشة في محطتنا القادمة.