تعثر المصرفي الهنغاري، نيومان ميكسا، وهو يسير نحو المطبخ بورقة صغيرة مليئة بالأرقام. سأل زوجته عن مصدرها فأجابته بأنها ربما سقطت من ابنهما جون (5 سنوات)، عندما جاء إليها؛ لتعد له وجبة العشاء، احتفظ نيومان بالورقة في حقيبته. قطف الورقة صباحا وسأل ابنه عنها وهما يتناولان طعام الإفطار، أجابه جون بأنها فعلا له.. كانت الورقة تزدحم بحلول لبعض المسائل الرياضية البسيطة.. استفسر الأب أكثر عن فحوى الورقة وخلفياتها وأجاب الابن عن الأسئلة بتلقائية وسعادة.. قبّله الأب ثم غادر إلى عمله، والابن إلى مدرسته، عاد الأب إلى منزله في المساء، وبرفقته مدرس خاص في الرياضيات؛ لتطوير مهارات جون. لم يمض عام واحد حتى صار جون حديث مدرسته في الرياضيات.. ولم يكمل الثامنة حتى أصبح بارعا في حساب التفاضل والتكامل. حرص والده على تدريسه على يد عدد من أساتذة الرياضيات والفيزياء المميزين فانعكس على أدائه ونتائجه. تابع جون تفوقه ونبوغه حتى حصل على الدكتوراه من جامعة بودابست. وفي عام 1930 هاجر مع والدته وأشقائه إلى أميركا، وهناك اختير جون فون نيومان مع إينشتاين للتدريس في معهد الدراسات المتقدمة لجامعة برنستون، التي حقق فيها إنجازات علمية خلدت ذكراه إلى اليوم.
وقد كرمته الجامعة بإقامة متحف يعرض أعماله ونظرياته الرياضية الرائدة ومساهماته في صناعة الكمبيوتر الحديث. ويتضمن بعض رسائله وكتاباته الخاصة، ومن بينها الورقة الصغيرة التي التقطها والده من المطبخ، وكانت بمثابة شرارة انطلاق موهبته ونظرياته.
إن من يتصفح سيرة هذا العالِم الفذ سيكتشف أحد أسباب تفوق الغرب وريادتهم. ثمة ورقة صغيرة تجعلهم علماء وقيادين، في حين أوراقنا الصغيرة تصنع منا طغاة وفاسدين. في الغرب أوراقهم تساعد الأب على قراءة مستقبل ابنه. في المقابل، أوراقنا الصغيرة التي يرزعها آباؤنا في أيدينا تساعدنا على الدخول على مسؤول كبير أو صغير، تهبنا منحة وجنحة. إنهم يتربون على القراءة والوضوح، بينما نتربى على المراوغة والرضوخ.
آلاف الأوراق التي يتركها أطفالنا خلفهم لا تجد من يُشرحها ويحللها ويتفقدها، لا تجد من يقرؤها ويتمعن فيها. شاهدت الكثير من الآباء الذين لا يعبؤون بما يقوم به صغارهم. لا يردون عليهم حتى عندما يستعرضون أمامهم رسوماتهم أو كتاباتهم. قد يبتسمون ثم يعودون إلى جوالاتهم أو مسلسلاتهم.
إننا نعتبر ما يخطه أبناؤنا صغارا مجرد (خرابيط)، لكن في الحقيقة هي خارطة طريق لمستقبلهم. بوسعنا أن نصنع مما خطوه مجدا كبيرا. الخطوط لا تقودنا إلى مدننا فحسب بل إلى أحلامنا أيضا.
المصرفي نيومان حول الورقة الصغيرة التي سقطت من ابنه إلى خريطة أرشدته إلى مستقبل فلذة كبده.
ماتت الكثير من مواهبنا لأنها لم تجد من يكتشفها ويتنبه لها، لا يوجد شخص بلا موهبة. لكن يوجد الملايين ممن لم تُكتشف مواهبهم.
إن أطفالنا في أمس الحاجة إلى أوقاتنا أكثر من أموالنا. العناية بالأطفال لا تعني أبدا الاهتمام بطعامهم وملابسهم بقدر الاهتمام بأفكارهم وأسئلتهم ومحاولاتهم.
التأسيس الصحيح هو الذي يقود إلى إبداع وثراء في المستقبل. هل كان سيحقق جون فون نيومان ما حققه من نظريات وإنجازات لو لم ينتبه والده للورقة التي سقطت من ابنه؟ أشك في ذلك. أشك كثيراً.
تسقط من شفاه أطفالنا وأيديهم الكثير من الحروف، لكنها لا تجد من يصغي إليها ويتصفحها بعناية. إن الـ(حرف) يصبح (فرح) لو قرأناه بالعكس. قراءتنا الذكية للأشياء تمنحها قيمة مختلفة. علينا أن نمنح أطفالنا جل تركيزنا وانتباهنا لنساعدهم على التحليق في فضاء الإبداع.
أغلبنا يتحسر؛ لأنه لم يكتشف موهبته إلا متأخرا بعد أن أهدر عقودا في الطريق الخطأ.. في المكان الخطأ. بوسعنا أن نتدارك هذا الخطأ مع أطفالنا عندما ننصت إلى إيقاعهم، عزف أصابعهم. إن الحياة قصـيرة، قد نكتشف الكثير عنها في ورقة صغيرة!