في الكثير من المناسبات العامة والخاصة التي تكتسي بألوان الفرح الشعبي المتجذر في أعماق الطبيعة البكر، لا يفارق عيني أحد البسطاء النوادر في صناعة الفرح، الذي يحمل مزماره الصغير وكأنه قطعة من جسده، يكسر به رتابة المكان ويرمم به أصوات المشاركين في بعض الرقصات الشعبية. ميزته أنه لا يبحث عن مجد شخصي أو مال يجود به صاحب المناسبة، فالمال دائما ـ وفي كل مكان ـ يذهب لقارعي الطبول وشعراء المديح فقط، وحامل المزمار هو الأشد عوزا بين الحضور، ومع ذلك لا تجد منه شكوى سوى ما تنثره نغمات مزماره. وفي الطرف الآخر من المكان تجد شاعرا شعبيا كبيرا ولد بين ألحان الحقول لا يعرف سوى "الدمة" و"الخطوة" و"العرضة" و"المهجورة" مثلا، يصنع الدهشة في الأرواح المحيطة به والمنصتة لما يقول.
هاتان الشخصيتان لم تكونا ـ إلى وقت قريب ـ في حاجة إلى بث النشوة والفرح في الأرجاء، إلا لحدث بسيط مثل الانتهاء من بناء أحد الجدران المحيطة بمزرعة جارهما في القرية، أو على الأكثر الانتهاء من بناء منزل صغير لا يتجاوز غرفتين من الحجر، بل قد يكون التقاء مجموعة من الشباب الكادح في مزارع الذرة منذ نسمات الصباح الأولى إلى وقت الغروب؛ سببا مقنعا لإحياء ليلة كاملة بالأهازيج والألحان العذبة المستوحاة من رائحة المطر وتغريد العصافير.
لكن ماذا حدث لهما الآن؟ الإجابة التي رأيتها وسمعتها وعشتها مع بعض تلك النماذج الفريدة في صناعة الحياة والفرح، تقول إن أصابع حامل المزمار لم تعد قادرة على مجاراة أهازيج وكلمات لا تخرج من رحم المكان، وإن الشاعر الذي كان وما زال علما يشار إليه بالبنان في بناء "الدمة" محكمة المعاني والمباني، مذهلة الصور البديعية، أمسى خارج موروثه وهو يحاول كتابة قصيدة لم يكتبها في حياته، ولكن سعادة المدير أو المحافظ أو رئيس المركز يريد ذلك، وما من سبيل لرد طلبه. وقد شهدت حالة أحد هؤلاء الشعراء الكبار في عسير وهو يتفجر غضبا عندما "أحرج" بطلب قصيدة على غير اللهجة المحكية لإلقائها في مناسبة ما، فبات بين نارين، إما تلبية الطلب والخروج بشكل سيئ أو الرفض وقد تكون له تبعاته.
فمشكلة المفردة الشعبية الأصيلة تنبع من محاولة البعض إخراجها من جلبابها إلى جلباب آخر، مما جعلها تدور في فلك ليس لها، وخصوصا في الاحتفالات السياحية أو المناسبات والأعياد الوطنية المختلفة، مما يفقد هذه المناسبات المتعة والتميز الخاص بالمكان، حتى أصبحت نسخا مكررة كل عام، حيث ترى ذات الوجوه وتسمع ذات الكلمات، وكأن الاستنساخ في كل حياتنا أصبح شريعة لا يحيد عنها أحد.