شيعت الرياض عصر أمس شيخها وعاشقها وأديبها عبدالله بن خميس بعد معاناة طويلة مع المرض، وأمّ المصلين عليه عصر أمس بجامع الإمام تركي بن عبدالله وسط العاصمة الرياض رئيس هيئة كبار العلماء، مفتي المملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، قبل مواراته ثرى مقبرة (الشعيبة) في الدرعية ـ مسقط رأسه ـ حسبما أوصى قبل رحيله. وكان من أبرز المصلين عليه رئيس الشركة السعودية للأبحاث والنشر، الأمير فيصل بن سلمان، والسفير الفلسطيني لدى المملكة جمال الشوبكي، فيما بدأت مراسم العزاء مساء أمس بمنزله في حي أم الحمام على طريق الملك خالد.
وما زالت الأوساط الثقافية والإعلامية في المملكة تواصل نعيها للفقيد، حيث قال وكيل وزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية، الدكتور ناصر الحجيلان: إن الفقيد كان واحدا من جيل الرواد وترك ثروة من المعرفة والتجربة لتستفيد منها الأجيال، مبينا أن الراحل خاض غمار الأدب والصحافة والتاريخ في فترة زمنية كانت فيها الموارد المالية شحيحة وسبل التواصل محدودة، ومع ذلك استطاع ابن خميس أن يؤسس صحيفة "الجزيرة" وأن يؤلف في التاريخ والشعر ويقدم منجزات أدبية متعددة لمجتمعه ولثقافته.
وأعرب الحجيلان عن أمله في أن تستثمر جهود الفقيد المتعددة في مجالات مختلفة للبناء عليها والتعلم من تجربته في العمل وتحدي الصعاب. وأضاف "ما أحوجنا اليوم إلى أن نطلع على تجارب الرواد والعصاميين والمتميزين في الثقافة والأدب والفن واللغة، لكي نصنع منجزا متراكما يستفيد من جهد السابقين في سبيل تحقيق نهضة حضارية تخدم الثقافة وأهلها.
ولفت الباحث، مدير الشؤون الثقافية بمكتبة الملك فهد الوطنية، محمد القشعمي إلى أن الفقيد الراحل ابن خميس كان آخر من فازوا بجائزة الدولة التقديرية، حيث قلد الميدالية الذهبية و300 ألف ريال في أول سنة أقرت فيها الجائزة عام 1983 مع الشيخ حمد الجاسر. وقال القشعمي في معرض ذكرياته مع الراحل: إن ابن خميس "أوقف مكتبته التي تضم 7900 عنوان لجامعة الإمام، في بداية الأمر إلا أنهم لم يتجاوبوا معه فأودعها مكتبة الملك فهد الوطنية التي كان أحد الأعضاء الاستشاريين فيها، مبينا أنه رأى في المكتبة ما شجعه على إيداع ثروته المكتبية فيها حتى تكون في مكان بارز، وكان يأتي لزيارة المكتبة كل شهر ونصف ويطمئن على عرض كتبه، وبعد أن بلغ من الكبر عتيا كنت أقابله أحيانا وأداعبه كثيرا بقولي أولادك يسلمون عليك فيرد ابن خميس بحزن أنه مشتاق لهم.
الإعلامي عثمان العمير قال "برحيل عبدالله بن خميس انطفأت شمعة كبرى في الأدب والصحافة السعودية"، مبينا أن ابن خميس خدم البلاد والكتاب أكثر من سبعين عاما، وكان عزاء لنا وللكلمة وللشعر".
رئيس نادي الرياض الأدبي الدكتور عبدالله الوشمي قال "لقد تفتح وعي الكثيرين من جيلي على قصائد الشيخ عبدالله بن خميس المدونة في كتب النصوص الأدبية، وتفتح وعي الجيل الذي يسبقني على إيقاع صوته المتميز حين كان يقرأ قصائده في (من القائل؟)، وتفتح وعي سابقيهم على خطواته الإعلامية والثقافية في الصحافة الورقية والنادي الأدبي وغيره". وتحدث الوشمي عن رئاسة الفقيد للنادي الأدبي بالرياض فقال: إنه كان أول رئيس منتخب للنادي بعد اجتماع تاريخي في منزله بحي الملز بشارع الفرزدق، وكان ناشطا ثقافيا بارزا. وأشار الوشمي إلى القيم المعرفية والإدارية للشيخ عبدالله بن خميس ـ رحمه الله ـ وقال "من خلال المسارات المعرفية والإدارية التي تكوَّن من خلالها، فهو ابن المؤسسة الإدارية باعتباره وكيلا سابقا لوزارة المواصلات، وهو ابن الإعلام، باعتباره ضمن المؤسسين لمساراته صحفيا وإذاعيا، وهو ابن القصيدة العربية الأصيلة باعتباره أحد الشعراء البارزين، وهو ابن الإدارة الثقافية باعتباره أول رئيس للنادي الأدبي، وهو ابن التأسيس الثقافي باعتباره مثقفا فاعلا على مستوى الأسرة، حيث جاءت أسرته متميزة من حيث العطاء الفكري، وهو ابن التواصل السعودي العربي باعتبار صلاته الثقافية في المجامع العربية، وما زلت أذكر أحد زائرينا من المثقفين العراقيين، وهو يقول: إنه يستمتع بالنمط العربي الفخم حين يستمع إلى القصائد ملقاة بصوت الشيخ ابن خميس.
وبيّن الوشمي أن آخر تكريم تلقاه الشيخ كان على يد النادي من خلال الليلة الكبيرة التي نفذها بالشراكة مع صحيفة الجزيرة، وتحت رعاية وزير الثقافة والإعلام وبحضوره.
واختتم الوشمي حديثه بقوله: إن العزاء للوطن والقيادة ولأسرته، مطالبا الجامعات والمؤسسات الثقافية بأن تعود إلى إنتاجه بالدرس والتحليل والدراسة، وأن تتم استعادته بإعادة طباعته، ودراسته على مستوى وعيه بالقصيدة العربية والنبطية ورحلاته ومشاركاته اللغوية والإعلامية، وأن يتم استثمار برنامجه الإذاعي الذهبي بإعادة البث، وطرحه في أسطوانات قابلة للاستماع من جديد.
الشاعر إبراهيم الوافي قال "عبدالله بن خميس لا يمكن أن يغيب، فهو إن رحل بجسده حاضر بذاكرتنا، جمع بين الإعلام والإبداع والثقافة، وكان أحد المؤثرين بالصحافة وموسوعة إبداع في ذاكرة المشهد الثقافي، كما كان أحد المؤسسين لتشكيل المشهد الثقافي السعودي، جمع الجميع حوله من التيارات المختلفة إلى المثقف الصغير لا يختلف أحد على حبه وعشقه". وطالب الوافي بتأسيس معلم ثقافي كبير في الرياض يحمل اسمه، بوصفه ذاكرة حية وأحد المبدعين المؤثرين في العالم العربي.
الباحثة في الأدب السعودي هيا السمهري ـ ابنة شقيقة عبدالله بن خميس ـ قالت "لقد شرفتُ بدراسة أدب الشيخ عبدالله بن خميس ـ رحمه الله ـ شعره ونثره، فالنثر لديه عبقرية مقالية فذة تؤرخ لصحافتنا وحياتنا الأدبية والاجتماعية وتستشرف مستقبل أجيالنا، والشعر لوحات تؤرخ لتاريخ الأدب السعودي، فبين عجز البيت وصدره قصة أدبية أو واقع بحثي كان قائما أو معركة أدبية تواترت الأخبار عنها في زمننا إلا أن حقيقتها شذرات بثها في ثنايا قصائده، مناسبات وطننا أرخت من خلال شعره، وإضاءات حكامنا التي أوقدت في أرجاء الوطن كانت حاضرة في شعره، أخبار وفودنا الأدبية ومرايا صحافتنا المكتوبة، جميع ذلك في أوعية ثرة بعبقريته الشعرية، إنه صانع ماهر لقوافي الشعر وقوالب النثر.