خلال عامي 87-1788 اجتمع مندوبو ولايات أميركا الشمالية، الثلاث عشرة، لصياغة دستور لها، في مدينة فيلاديلفيا، لتأسيس ما عرف بعد ذلك بالولايات المتحدة الأميركية؛ بعد نيلها استقلالها عن بريطانيا العظمى، وبعد نجاح الثورة الأميركية وحروبها المنهكة مع بريطانيا. كان معظم مندوبي الولايات هم من المحامين ورجال الأعمال والمزارعين الارستقراطيين، وبنفس الوقت، كان غالبتيهم أنصاف فلاسفة وتلامذة نجباء لرواد عصر التنوير الأوروبي. بعد أخذ ورد طال بين المجتمعين حول صياغة بنود الدستور، كاد أن يدخل اليأس في قلوب بعض المشاركين من عدم إمكانية الاتفاق على صياغة نهائية له.

حينها وقف من بين المندوبين جون أدامز الذي أصبح ثاني رئيس للولايات المتحدة بعد جورج واشنطن خطيباً وقال لزملائه: "أنا متأكد بأن الديمقراطية سوف تنجح في الولايات المتحدة الأميركية، حيث قال الفيلسوف اليوناني العظيم أرسطو إن الديمقراطية لا تنجح وتزدهر إلا في مجتمع غالبيته من الطبقة الوسطى. ونحن أول مجتمع في تاريخ البشرية تكون الطبقة الوسطى هي غالبيته العظمى، وعليه فنحن سنحقق نبوءة أرسطو بعد ألفي عام والآن وهنا بالتحديد".

وهنا تكمن روعة الوعي بمفاصل اللحظة التاريخية التي يعيش فيها الإنسان وفهمها واستيعابها وسبر أبعادها وخلفياتها التراكمية التاريخية ومداها المستقبلي المنظور والبعيد. وهذا بالتحديد ما ذكر به جون أدامز رفاقه الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، كما يحبذ الأميركيون تسميتهم. ولذلك فلم يأت من فراغ كون الدستور الأميركي يعتبر أقدم دستور في العالم ما زال قائماً وفاعلاً حتى اليوم. ومن المفارقة العجيبة بأن أقدم دستور فاعل تحتفظ به دولة فتية جداً مقارنة بالدول العريقة بتاريخها الحضاري مقارنة بالولايات المتحدة.

ما يهمنا من كل هذا، هو ماذا عنى المحامي ونصف الفيلسوف والسياسي الأميركي جون أدامز بالطبقة الوسطى؟ والتي أكد عليها قبله بألفي سنة الفيلسوف اليوناني أرسطو، والتي نعتاها بأنها الدعامة والضمانة الحقيقية للديمقراطية والاستقرار.

الطبقة الوسطى أو البرجوازية والمأخوذة من الكلمة الإيطالية "برجوازي" أي ساكني المدن، والتي أخذت تظهر وتزدهر في إيطاليا في القرنين الـ14 والـ15الميلاديين، نتيجة لتراكم الثروات في خزائن النبلاء والإقطاعيين الإيطاليين نتيجة احتكارهم للتجارة التي كانت تأتيهم من الشرق والصين عبر البلاد العربية ومنها ينقلونها لأوروبا. وهذه المدن الإيطالية الحديثة بسكانها الذين أخذوا يتوافدون من الأرياف والإقطاعيات الزراعية، للبحث عن الرزق وطلب العمل، والذين شكلوا نواة أول مدن أوروبية عامرة. وهم أول من دشن ما عرف بعصر النهضة أو الإحياء الأوروبي في القرن الـ15 الميلادي. الذي بدوره مهد للمدن الأوروبية التي تلاها القيام بالثورة التجارية ثم الثورة العلمية والإصلاح الديني والثورة الفكرية "عصر التنوير" ومن بعدها الثورات السياسية في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة والتي أدخلت العالم كله فيما عرف بالعصر الحديث.

أي عندما كانت المجتمعات مقسمة لطبقتين هي الطبقة العليا "طبقة الفئات الحاكمة والنبلاء والإقطاعيين ورجال الدين والكهنوت الكنسي" وهؤلاء نسبتهم قليلة جداً بالنسبة للسكان ولكن كان بيدهم كل مقاليد السلطة "المال والسلاح والجاه وتفسير الدين وتوجيه الثقافة وصلاحية سن القوانين والأنظمة". والغالبية العظمى من الشعب هم من الفقراء والمعدمين من رقيق الأرض والذين هم مسيرون من قبل الطبقة العليا بأدوات السلطة التي كانت تسيطر على مقاليدها.

وفي مثل هذا الوضع، كانت تحرص الطبقة العليا على إبقاء الوضع كما هو قائم لصالحها وتقف بقوة أمام أي حراك اجتماعي من الممكن أن يغير أو يهدد بتغيير الوضع الذي كان يخدمها. خاصة كونهم يسيطرون على مقاليد ومفاصل الحكم والتحكم والتوجيه في المجتمع. وكان لدى الطبقة العليا وسيلتان لضبط الوضع وصد أي حراك قد ينشأ ويغير تراتبية الوضع الطبقي التقليدي القائم منذ قرون، وهي من ناحية، استخدام العنف المنظم من قبل السلطة (الدولة)، بالسلاح والعقاب والإقصاء، ومن ناحية أخرى تسخير الدين والثقافة لتسيير الوضع كما هو عليه، لخدمة استمرار الوضع القائم والذي يخدم مصالح الطبقة العليا المسيطرة "القلة" على حساب الطبقة الدنيا "الغالبية". وهنا تم تجميد الوضع القائم، وكانت العصور المظلمة والتي تم القضاء فيها على أي حراك ثقافي أو علمي أو اقتصادي كان يمكن بأن ينقل المجتمع من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى أرقى منها.

وهنا يمكن توضيح حقيقة وهي بأن أدوات العنف والضبط الأمني التي كانت تستخدمها الطبقة العليا المسيطرة يظهر بأنها هي الأقوى في تجميد الوضع كما هو وبدون أي حراك حضاري أو تاريخي يمكن بأن يخلخل تراتبية الوضع القائم؛ إلا أنه وبالحقيقة هو الأضعف، حيث هو يستخدم فقط في أوقات الطوارئ والأزمات. ولكن السلاح الأمضى والأكثر استمرارية وأقوى فاعلية بيد الطبقة المسيطرة، كان هو السلاح المعنوي "الخطاب التقليدي" والمتمثل بالدين والثقافة والذي من خلاله يتم السيطرة على عقول ووجدان الطبقة الدنيا وتقييدها وتوجيهها لصالح ضبط الوضع الذي يصب لصالح الطبقة العليا وتنفذه الطبقة الدنيا بدون وعي منها.

وكان الخطاب التقليدي سواء الديني أو الاجتماعي يتكون من الإيمان بالقدرية العمياء التي سخرت الأرزاق للعباد وبأن الطبقة العليا هي مصطفاة من قبل الله والاعتراض على ذلك يعتبر اعتراضاً على الله والدين. وكذلك التوكل الأعمى على ما يكتبه أو يسخره الله لخلقه وبأن العمل الأفضل والأنفع للناس هو الاستعداد للآخرة والزهد بالدنيا الفانية. ونشر الفكر الخرافي بين الناس وإلغاء إمكانية البحث والتقصي في حقيقة الكون والحياة بشكل خاص والتي قد تنعكس سلباً على إدراك حقيقة الوضع القائم الجائر ضد الغالبية العظمى من المجتمع، أي بإلغاء وتجريم أي ربط بين الأسباب والمسببات. وكان تخويف الناس وتحذيرهم من أصحاب الديانات والمذاهب المغايرة مستعراً ومتفشياً في الخطاب الكنسي. وكانت خطب الكنائس ومواعظها تتكئ على هذا الخطاب التقليدي وتجذره في عقول ووجدان الناس. وهيئت المحاكم لمحاكمة أي إنسان يتجرأ على التساؤل أو نقد الخطاب التقليدي وحرقه أمام الناس بتهمة الزندقة والهرطقة.

عندما نشأت المدن الإيطالية وازدهرت كثر تعداد سكانها الذين أخذوا ينخرطون في المجالات الحرفية والمهنية التي تحتاجها المدن، تم فتح مدارس وأكاديميات فيها من أجل إعداد كوادر ماهرة لإدارة شؤون المدن تجارياً ومعمارياً، وإدارة مرافق مدنية مثل المستشفيات والإدارات الخدمية والرقابية والتعليم وما شابهها من خدمات. هنا ظهرت في إيطاليا ومن ثم لحقت بها باقي المدن الأوروبية طبقة جديدة لا تنتمي للطبقة العليا ولا للطبقة الدنيا، سميت بالطبقة الوسطى.

من ميزات الطبقة الوسطى أنها متعلمة وطموحة وأصبحت تعي حقيقة تزييف الوعي الذي كان يرزح تحته المجتمع، وبنفس الوقت، أدركت الظلم والجور المصبوب على عاتقها؛ خاصة لما أحست بأن سقف الحراك الاقتصادي والسياسي وحتى الاجتماعي، المسموح لها بتخطيه أدنى بكثير من قدراتها وطموحاتها. ومن هنا بدأت بوادر الصدام بين الطبقة الوسطى والطبقة العليا المسيطرة. والذي تكلل بغلبة الطبقة الوسطى وسيطرتها على مقاليد الحكم والتي على أكتافها انتقل العالم من العصور المظلمة إلى العصور الحديثة.