"اشتقت إليك أبا ياسر، إلى مؤانستك، لقد اشتقت إلى كثير من الأشياء الخصوصية التي لا أستطيع أن أبثها الآن". خنقت العبرة وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة، وتهدج صوته ليفيض بحنين آسر، حين وجد نفسه يكف عن قراءة الورقة التي حملت كلمته، وبدا كمن تجلى له الدكتور محمد عبده يماني مساء أمس في مقر نادي جدة الأدبي، حيث تحسس الحضور روح يماني وطيفه يملآن المكان الذي اكتظ بالمحبين الذين تدفقوا صوب النادي لحضور حفل تكريمه (رحمه الله)، بعد أن انداحت سيرته عبر عرض مرئي لخص مسيرة حافلة لواحد من أشهر وزراء الإعلام في التاريخ السعودي، وأحد الوجوه الاجتماعية التي نجحت بامتياز في امتحان الحياة، بل كان واحدا ممن (أدب الإدارة وأدار الأدب) طبقا لتعبير رئيس النادي الدكتور عبد المحسن القحطاني في كلمته الافتتاحية لليلة الوفاء، والتي أطلق عليها ليلة محمد عبده يماني ناعتا إياه بـ(علمنا كيف يدار الحوار، وكيف تطرح الكلمة).
وفي الوقت الذي أخذت فيه موسيقى رياض السنباطي التي انسابت على مقاماتها مقاطع من كلمات بيرم التونسي (القلب يعشق كل جميل) بصوت أم كلثوم، تصدح في المكان (مكة وفيها جبال النور، طالة على البيت المعمور)، مصاحبة لعرض تناول مسيرة يماني منذ انطلاقته المبكرة من حارات مكة، مرورا بمدارسه، وصولا لقسم الجيولوجيا بجامعة الملك سعود حتى نيله البكالوريس عام 1963م، وإكماله دراساته العليا في أميركا وانخراطه في الحياة العملية بعد نيله درجة الدكتوراه في الجيولوجيا، وتدرجه في المناصب إلى أن صار واحدا من رجالات الدولة، ووجها اجتماعيا، كان خوجة يشدد على أن هذه الصفة التي طغت على شخصيته، أكثر من كونه كاتبا وقاصا ومفكرا وأديبا متمكنا، - بحسب كلمة خوجة- الذي أكد أن يماني آثر التضحية بموهبته الأدبية لكونه مهموما بأمته وأبناء أمته. وعدد خوجة مناقب يماني التي شكلت ملامح شخصيته فهو - بحسب خوجة- "كان وزيرا مع الوزراء وأديبا مع الأدباء وداعيا مع الدعاة وبسيطا مع البسطاء من أبناء الحارة"، مؤكدا أنه في كل ذلك لم ينس الثقافة التي تشربت روحه من خلال تحلقه حول وفي (مراكيز) الرعيل الأول من الأدباء في مكة المكرمة، كأحمد السباعي وأحمد عبدالغفور عطار وحسين عرب، وتطوافه على مكتبات باب السلام، لافتا إلى تأثير المربي إسحق عزوز وفضله عليه، وتمتعه بشهامة ابن الحارة المكية، حيث لم تكن حياته له، بل للبسطاء من الناس سواء على صعيد الوطن أو خارجه. كما تطرق خوجة لجوانب أخرى منها كونه كاتبا جُبل على تعزيز قيم التكافل والاعتدال ونبذ الفرقة، مستشهدا بكتابيه (علموا أولادكم محبة رسول الله)و(علموا أولادكم محبة آل البيت)، واصفا كتابات يماني بأنها تنتمي إلى تلك المدرسة البيانية التي من رموزها الرافعي وطه حسين والزيات على حد وصفه.
وفيما تقدم ياسر أسرة يماني حضورا خلال الحفل وتسلم من لدن الوزير خوجة درعا تكريميا، بعد أن ألقى كلمة مقتضبة عبر فيها عن سعادته وأسرته بمبادرة النادي، شكر رئيس أدبي جدة الدكتور عبدالمحسن القحطاني الأسرة على مساهمتهم في إحياء الليلة متحدثا عن مآثر الراحل الذي لم يتردد في وصفه بـ(الرجل العجيب).