كان الموقف الإيراني في بداية ما يسمى بـ"الربيع العربي" مؤيداً دون تحفظ للانتفاضات الشعبية في البداية. فقد أيدت جمهورية إيران الإسلامية ثورتي تونس ومصر، بل واعتبرتهما امتدادا للثورة الإسلامية الإيرانية التي شكَّلت إلهاماً لشعوب المنطقة. ولم يكن موقف إيران من تلك الثورتين غريباً لأسباب سياسية بحتة، خاصة في الحالة المصرية، لأن علاقات مصر مع إيران في عهد الرئيس مبارك كانت متوترة وعدائية إلى حد كبير. وبالطبع فإن العنصر السياسي ـ الطائفي حاضر بقوة أيضاً في موقف إيران من الاحتجاجات في اليمن. لكن الأحداث في سورية فاجأت الجميع، بما في ذلك النظام السوري نفسه، ووجدت إيران نفسها مُحرجة في اتخاذ موقف يتماشى مع مواقفها في الحالات الأخرى. ففي تونس ومصر واليمن والبحرين وليبيا حاولت إيران أن تسوِّق نفسها كنظام مؤيد للحركات الشعبية ومطالب الشعوب لأن ذلك يخدم مصالحها الاستراتيجية دون شك. أما في الحالة السورية فإن علاقتها الاستراتيجية مع النظام السوري فرضت عليها اتخاذ موقف مختلف تماماً. وقد نشر "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى" دراسة في نهاية شهر مايو المنصرم تناول فيها الكاتب مهدي خلجي العلاقة الاستراتيجية بين سورية وإيران على خلفية الاضطرابات السياسية التي تشهدها سورية منذ فترة.

تقول دراسة معهد واشنطن: إن هناك خلافات داخل الحكومة الإيرانية حول الاضطرابات في العالم العربي، فالمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي ومؤيدوه يرون أن الانتفاضات الشعبية العربية هي ثورات شعوب ضد الحُكام الظالمين المدعومين من الغرب، لكن السيناريو في سورية مختلف تماماً، حيث يعتبره المرشد الأعلى مؤامرة صهيونية تهدف إلى إسقاط حكومة شعبية ومشروعة، بسبب معارضتها لإسرائيل والولايات المتحدة ومناصرتها للمقاومة. أما الفريق السياسي المؤيد للرئيس أحمدي نجاد فإنه يرى أن "الربيع العربي" برمته هو مؤامرة غربية لخداع العالم الإسلامي.

وباستثناء ما يحدث في سورية، يستخدم خامنئي مصطلح "الصحوة الإسلامية" لوصف "الربيع العربي"، بينما لا يرى أحمدي نجاد هذا المصطلح مناسباً لوصف الاضطرابات في العالم العربي. لقد جاءت الاضطرابات في سورية قبل الأوان أيضاً لأن نجم أحمدي نجاد بدأ يغيب بسرعة. فتصريحاته المناهضة لإسرائيل والمعادية للغرب أكسبته إعجاباً كبيراً في جزء هام من الشارع العربي، ووضعته في مصاف شخصيات أخرى مثل أسامة بن لادن وحسن نصر الله.

الرئيس أحمدي نجاد أعيد انتخابه في يونيو 2009 في انتخابات مثيرة للجدل، تلتها سلسلة من المظاهرات المعارضة احتجاجاً على نتائج الانتخابات الرسمية، ثم بدأ يفقد جاذبيته كممثل للشعب الإيراني بسبب الطريقة التي تعامل بها نظامه مع الاحتجاجات الشعبية في الداخل. ونظراً للعلاقة المباشرة بين شرعيته وشرعية النظام السياسي بأكمله، فقد أيده خامنئي. لكنه الآن، وبعد مرور نحو سنتين على تلك الانتخابات، فقد ثقته في أحمدي نجاد. وتفضل وسائل الإعلام الرسمية وغيرها من أدوات الدعاية التحيز لصالح المرشد الأعلى خامنئي، كما لا يتردد كل من البرلمان والقضاء في انتقاد أحمدي نجاد أو أفراد حاشيته. ومما لا شك فيه أن خامنئي سيعمل على إضعاف أحمدي نجاد، أما الرئيس الإيراني فلن يكون قادراً على الأغلب على إيجاد دائرة سُلطة مستقلة لنفسه للطعن في المرشد الأعلى.


إيران لا تتخلى عن حلفائها في المنطقة

يشير تقرير معهد واشنطن إلى أن هناك اعتقادا واسعا بأن نظام أحمدي نجاد يساعد سورية على اتخاذ إجراءات صارمة ضد المتظاهرين والمنتقدين لنظام الحُكم، مستفيدين من الخبرة التي اكتسبها النظام الإيراني قبل عامين في فعل الشيء نفسه بالشعب الإيراني. ويصل الأمر ببعض النشطاء السياسيين الإيرانيين والسوريين على حد سواء إلى حد اتهام إيران بإرسال ميليشيا "الباسيج" إلى سورية. وقد وضعت وزارة الخزانة الأميركية أسماء اثنين من المسؤولين الإيرانيين من كبار قادة قوات "الحرس الثوري" على قائمة عقوباتها، وهما القائد الأعلى لـ"قوة القدس" قاسم سليماني ومحسن شيزاري، على أساس أنهما يساعدان الحكومة السورية في قمع الاحتجاجات الشعبية. كما تتهم وزارة الخزانة الأميركية النظام الإيراني بمساعدة نظام بشار الأسد في تعقب نشطاء المعارضة من خلال وسائل الإعلام الاجتماعية مثل "فيس بوك" و"تويتر". وهذا هو بالضبط ما فعله النظام الإيراني بشعبه. وبينما تطبق إيران رقابة شديدة للغاية على الإنترنت وتحجب المواقع السياسية والإخبارية، فإنها لا تحظر مواقع مثل "فيس بوك" و"تويتر". وكان المتظاهرون في سورية قد أحرقوا علم الجمهورية الإسلامية وهتفوا بشعارات معادية لإيران.

ومن المعروف أن التيار الديموقراطي في إيران غير راض عن مساعدة إيران سياسياً ومالياً لكل من "حزب الله" و"حماس" وتعاونها السياسي والأمني مع النظام السوري. فبعد منح ملايين الدولارات على شكل مساعدات إيرانية لـ"حزب الله" في أعقاب الحرب مع إسرائيل التي دامت 33 يوماً، انتقد العديد من الإيرانيين الحكومة علانية على تلك المساعدات السخية في الوقت الذي يعاني فيه بعض الإيرانيين من الجوع وبؤس الحياة. ويريد معظم الإيرانيين من حكومتهم أن تحصر سياستها الخارجية في إطار مصالح إيران الوطنية بدلاً عن ربطها مع أجندة إسلامية عالمية. لقد نمت مشاعر الاستياء تجاه النظام الإيراني منذ أزمة انتخابات عام 2009، ويتعاطف الآن الديموقراطيون الإيرانيون والناشطون السياسيون والصحفيون مع المعارضة السورية التي يرونها ضحية لقمع النظام السوري.

ويعتقد تقرير معهد واشنطن أن من الأفضل لإيران إقناع المسلمين بأن الجمهورية الإسلامية ستقف إلى جانبهم ضد القوات الموالية للغرب وحلفائها. غير أن عدم قدرة إيران على التأثير على أحداث البحرين كان مصدر إحراج كبير لها، إذ لم تجرؤ على الذهاب أبعد من مجرد المهاترات والدعايات في معارضتها لنشر قوات "درع الجزيرة" في البحرين. وعملياً، فشلت إيران في تقديم أي مساعدة لسكان البحرين الشيعة. ووفقاً لذلك، ينبغي أن يدرك الشيعة الآن في كل من العراق والسعودية والكويت ولبنان وأماكن أخرى، بأن إيران ليست متحمسة في دعمها للطائفة الشيعية كما تدعي. وفي حين تعتبر نفسها بأنها الحكومة الشيعية الوحيدة في العالم التي تتحمل مسؤولية حماية الشيعة، لا يتوافق ذلك مع سجلها في مجال السياسة الخارجية؛ إلا أن هذا الموضوع هو بالتأكيد في صلب دعايتها. وفي حالات عديدة تغلبت مصالحها الاستراتيجية على سياستها الطائفية، مثل دعمها لأرمينيا المسيحية ضد أذربيجان الشيعية في تسعينات القرن الماضي.

ولدى إيران مصلحة كبيرة في سورية التي تتحكم فيها الأقلية العلوية على الأكثرية السُنية. فقد كانت سورية أول حكومة عربية تمكَّنت الجمهورية الإسلامية من إقامة علاقات وثيقة معها قبل حرب العراق، كما استطاعت أن تساعد "حزب الله" على تعزيز سُلطته السياسية في الحكومة اللبنانية. وحتى قبل قيام ثورة 1979، حاول النظام السوري التقرب من علماء الشيعة أمثال موسى الصدر لكي يكسب الشرعية لنظامه، حيث كان العلويون ولفترة طويلة يُعتبرون زنادقة من قبل الشيعة. وتعمل إيران على استعراض قوتها في المنطقة من خلال تصوير الشيعة كقوة صاعدة في جميع أنحاء البلدان العربية. وعلى هذا النحو، من المهم للغاية المحافظة على سورية التي تقودها أقلية علوية خوفاً من خسارتها لصالح الأغلبية السُنية. إن نجاح المعارضة السُنية لن يُغيِّر علاقة إيران مع سورية فحسب، بل علاقتها بالطائفة الشيعية في دول عربية أخرى أيضاً، وخصوصاً في لبنان.


المواجهة بين إيران والغرب

بسبب التوازنات العسكرية التقليدية التي لا تصب في مصلحة إيران، تستند عقيدة إيران العسكرية إلى الحرب غير التقليدية، وتبذل قصارى جهدها لمنع حدوث أي مواجهة عسكرية مع الغرب أو إسرائيل من على أراضيها. وفي الواقع، أدركت إيران بعد قيام الولايات المتحدة بغزو العراق عام 2003، أنها قد تكون الهدف المقبل. لذلك، بعثت طهران برسالة إلى وزارة الخارجية الأميركية وعرضت إجراء مفاوضات غير مشروطة حول جميع القضايا "بما في ذلك حزب الله وحماس"، إلا أن الصعوبات التي واجهتها الولايات المتحدة في العراق أغرت إيران على إلغاء العرض واتخاذ موقف أكثر عدائية تجاه الولايات المتحدة. وقد نسقت إيران وسورية معاً لمساعدة حركات التمرد في العراق لإضعاف النفوذ الأميركي والتأثير على شكل السياسة في العراق.

ويرغب النظام الإيراني في تحويل منطقة الشرق الأوسط، باستثناء إيران، إلى ساحة معركة لمحاربة الغرب وإسرائيل. وفي هذا الصدد، تلعب سورية دوراً مهماً بالنسبة إلى إيران كمصدر رئيسي تتمكن من خلاله طهران من إرسال مساعدات مالية وعسكرية لـ"حزب الله" والجماعات الفلسطينية. وتتعاون إيران وسورية في توفير صواريخ طويلة المدى لـ"حزب الله". كما تستخدم إيران مكتب المرشد الأعلى في الزينبية، وهي بلدة مقدسة عند الشيعة قريبة من دمشق، وكذلك مكتب الملحق الثقافي الإيراني في العاصمة السورية كقاعدة لتدريب رجال الدين الشيعة على ترويج نظرية مرجعية آية الله خامنئي (كمصدر للتقليد)، ثم يتم إرسالهم من قبل هذه المكاتب إلى جميع أنحاء سورية، والعراق، ولبنان، وبلدان الخليج العربي لتشجيع الشيعة على اتباع مفهوم خامنئي في طقوسهم الدينية، ودفع الضرائب الدينية له.

وقد أصبحت سورية ذات أهمية كبرى للجمهورية الإسلامية إذ أتاحت لإيران كامل الحرية لاستخدامها في أجندتها الإقليمية. ومن خلال تهديدها لإسرائيل، تحقق إيران ما يكفي من المكاسب للتأثير على أي مفاوضات مع الغرب، سواء بسبب برنامجها النووي أو سياستها الأوسع في الشرق الأوسط. ولذلك فإن سقوط النظام في سورية يُعرِّض إيران للخطر ويفقدها هذا النفوذ، بل ويؤدي إلى تغيير معادلة القوة في المنطقة ضد طهران.

وقد لعبت سورية دوراً مهماً في تحقيق قدر من التوازن بين طهران ودول عربية أخرى. فخلال الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثمان سنوات، وقفت جميع الدول العربية إلى جانب صدام حسين باستثناء سورية. واستخدمت دمشق تلك الفرصة للتوسط بين إيران والعالم العربي. فإذا ما ساءت علاقات إيران مع نظام عربي معيَّن، تقوم سورية بالتوفيق بينهما أو بتهدئة التوتر. وباستثناء العراق، ليست لإيران علاقات قوية مع جيرانها العرب، خاصة في أعقاب ما حدث في البحرين.

وتشعر السعودية ودول عربية أخرى بقلق تجاه أجندة إيران وطموحاتها الرامية إلى نشر المذهب الشيعي في جميع أنحاء البلدان العربية من أجل استقطاب المزيد من القوة لنفسها، كما أن للحكومات العربية مخاوف جادة من نوايا إيران من برنامجها النووي. وفي خضم الحرب الباردة المستعرة، فإن سقوط النظام السوري الحالي يعني فقدان جسر هام إلى العالم العربي وبالتالي عدم القدرة على تعزيز موقف السكان العرب الشيعة المحليين.

وسواء نجا بشار الأسد من الانتفاضة الشعبية الحالية أم تمكنت الأغلبية السُنية من تولي السلطة في البلاد، فإن علاقة إيران مع الحكومات العربية في المنطقة مستمرة في التدهور على المدى القريب. وإذا ما سقط الأسد ستخسر إيران حليفاً عربياً لا يُستعاض عنه. وفي حال نجاح جهود التقارب الإيراني المصري، وهو أمر غير مرجّح، لن تكون مصر في وضع يمكنها من التوسط بين إيران وجيرانها العرب. حتى العراق الذي يتمتع فيه الشيعة بحصة كبيرة من السُلطة في الحكومة، لن يكون قادراً على أن يحل محل سورية. وطالما أخفقت إيران في إقامة علاقات استراتيجية مع أي حكومة عربية سُنية، فإن اعتمادها على المجموعات الشيعية، أو على العلويين في حالة سورية، قد لا يولد إلا مزيداً من عدم الثقة تجاهها من قبل العالم العربي.

وإذا بقي بشار الأسد في السُلطة، فإن القوى الديموقراطية في جميع أنحاء العالم العربي ستلقي اللائمة على إيران لإفشالها مجيء حكومة ديموقراطية. ومن شأن ذلك أيضاً أن يزيد من التوتر الطائفي بين الشيعة والسُنة في جميع أنحاء البلدان الإسلامية.

ويبدو أن العلاقة السورية ـ الإيرانية ستصمد لفترة طويلة إلى أن يتجذر "الربيع العربي" في سورية، وحتى لو نجا بشار الأسد من الاضطرابات الحالية، فسيبقى التحالف السوري الإيراني في خطر. فإما أن يواصل نظام الأسد علاقته الاستراتيجية مع إيران، مما سيغذي غضب الأغلبية السُنية في سورية، وإما أن يتعيَّن عليه خفض نبرة هذه العلاقات الخاصة من أجل معالجة الصراع الداخلي الحالي. وفي كلتا الحالتين، لا يخدم هذا الأمر مصالح إيران في المنطقة.