الصراع للتفريق بين أشباه العلوم والعلوم الحقيقية هو صراع دائم لا يخلو من جولات وصولات تستخدم فيها جميع معايير ومقاييس المنهجية العلمية للوصول للحقيقة الكاملة. أشباه العلوم تقوم على ممارسات توحي باتباع طرائق البحث العلمي لتقدم نتائج مزيفة لتأييد فكرة مسبقة لدى الباحث. هذه الممارسات الزائفة قام بتحليلها علماء النفس بأن من أسبابها ميلان النفس البشرية للبحث عن التأكيد بدلا من التفنيد والميل للمعتقدات المريحة كفاعلية خدمة أو برنامج ما قبل تطبيقه. من الجيد أن لأشباه العلوم هذه مؤشرات تسهم في تمييزها عن العلوم الحقيقية كاستخدام تعريفات بحثية مبهمة وإخفاء بيانات البحث حتى لا يتم تقييمها من قبل الآخرين وقطف الكرز.
قطف الكرز هو ممارسة من ممارسات العلوم الزائفة، تقوم على اختيار الشخص للعينات الجيدة في بحثه والتي ستؤكد رأيه المسبق عن الوضع بحيث يتجاهل جزءا من العينات التي تتعارض مع رأيه وقد تسهم في كشف الحقيقة. هذه المغالطة بقطف الكرز تستدعي التوقف والتحليل عندما تصدر من برنامج يعنى بالصحة المدرسية ويتبع لوزارة تعليمية.
شهد عام 1430 انطلاق برنامج المدارس المعززة للصحة من قبل إدارة الصحة المدرسية التابعة لوكالة الشؤون المدرسية. تم إدراج هذا البرنامج، الذي وضعت منظمة الصحة العالمية مفاهيمه ومقوماته في بداية التسعينات الميلادية، كأحد البرامج المعتمدة في خطط وزارة التربية والتعليم بعد أن حظي باهتمام عالمي لما له من آثار جيدة على تعزيز صحة الطلبة والطالبات، ولا سيما أنهم يمثلون حوالي ربع التعداد السكاني للمملكة بخمسة ملايين طالب وطالبة في كافة المراحل.
لهذا البرنامج مكونات رئيسية تعنى بالتربية الصحية والبيئة المدرسية والخدمات الصحية وبرامج التغذية الصحية وسلامة الغذاء والصحة النفسية والإرشاد والعلاقة الجيدة بالأسر والمجتمع. هذا البرنامج يتم تطبيقه تدريجيا لقلة وظائف الصحة المدرسية والتي لم يتم استحداث أي وظائف جديدة لها منذ 25 عاما، وعوضا عن توظيف خريجي المعاهد الصحية لسد هذا الاحتياج يتم تدريب معلمين ومعلمات كان الأولى أن تتم الاستفادة منهم لرفع مستوى الكفاءة التعليمية.
مكونات برنامج المدارس المعززة للصحة جميلة وحلم لكل ولي أمر متى ما تم تفعيلها وتقييمها بالشكل السليم من دون قطف لكرز الصحة المدرسية من خلال خطة التطبيق التدريجية. هذه الخطة لا تقوم على أساس علمي، فهي تستقبل طلبات المدارس، ولا تقوم باختيارها، للانضمام للبرنامج ومن ثم تقوم إدارة التربية والتعليم بدراسة طلباتها وفق معايير ترشيح مبدئية ونهائية للمشاركة. من هذه المعايير مدى قابلية البنية التحتية للتأهيل والتطوير، ووجود حماس لدى إدارة المدرسة لتبني البرنامج! وهنا يظهر أول قطف للكرز، ماذا عن المدارس ذات البنية التحتية المتهالكة، والمدارس التي لا حماس لديها للبرنامج؟! أوليس هذا تجاهلا لعينات من المدارس لو تم إدراجها حياديا وبعشوائية من قبل الوزارة بدلا من انتظار طلباتها لظهرت حقائق وواقع الصحة المدرسية في المملكة العربية السعودية؟!
هذا القطف للكرز يظهر جليا عند تقويم المدارس التي طلبت المشاركة، فمكونات البرنامج الآنفة الذكر يتم تقييمها من قبل إدارة التربية والتعليم باستمارات تحوي نقاطا كوجود مطبوعات ولوحات معلقة وشهادات حضور دورات وتفعيل للمناسبات الصحية ومعاينات وملاحظات وخطط مكتوبة ووجود سجلات صحية للطلبة والعاملين بالمدرسة بغض النظر عن محتواها. هذا التقويم الذاتي يعطي الانطباع المغلوط بفاعلية البرنامج ويختزل الصحة المدرسية بدرجات لا تعكس أهداف الصحة المدرسية والتي لا بد أن تبنى على أسس علمية موضوعية لنصل لنتائج كميّة عن واقع صحة ربع سكان المملكة حتى تساهم في توجيه الإستراتيجية الصحية الوطنية باتجاه الاحتياجات الصحية الحقيقية وتجنب هدر المال العام في غيرها.
الصحة المدرسية ما زالت تئن وتفرق دمها بين الوزارات، والمتضرر الأول والأخير هو الطالب والمعلم، ولا بد من إعادة النظر بجدية في هيكلتها وتشغيلها ومرجعيتها، فوجود عيادات مدرسية مؤهلة بممارسين صحيين لتقديم ومتابعة الخدمات الصحية المدرسية هو من أساسيات أي بنية تحتية تعليمية تطمح في تخريج مواطنين فاعلين علما وصحة.