العودة مجددا للحديث عن موضوع الهوية، ضرورة ملحة في هذه الفترة التي تشهد فيها بعض بلداننا العربية، مشاريع تفتيت، بدأت مع الاحتلال الأميركي لأرض السواد، وما نتج عنه من انسلاخ المناطق الكردية عن المركز، وتهديد بانسلاخ محافظات أخرى. وقد شهدنا في العام المنصرم الإعلان عن قيام دولة مستقلة في جنوب السودان، مع وجود مخاطر لقيام دولة أخرى في الشطر الغربي بمنطقة دارفور. وليس آخرها إعلان سكان برقة في ليبيا، بالأسابيع الأخيرة عن تشكيل فيدرالية خاصة بهم. وهناك مخاطر انقسامات وتفتيت لبلدان عربية أخرى، نأمل من القلب أن تتمكن من تجاوز تلك المخاطر.
وابتداء نذكر أن الهوية هي المدلول الذي نميز به بين فرد وآخر. وهذا التعريف، يشير إلى مستوى أولي ومحدود للمفهوم. لكنه مع ذلك أمر واقع، كونه يتضمن أن لكل فرد مجموعة من الهويات، تبدأ في تشكلها، صعودا، من الأسفل إلى الأعلى. فالفرد ينتمي إلى بيت وإلى شارع وعائلة وعشيرة ومدينة. ثم يلتحق بمدرسة لها اسم محدد وموقع جغرافي، ومرحلة علمية. ثم ينتقل إلى التعليم الجامعي، ليحمل في لقبه صفة الدرجة العلمية، فهذا طبيب وذاك مهندس، وآخر معلم وهكذا. إذاً فالفرد يحمل مجموعة من الهويات، التي تخصه وحده أحيانا ويشاطر غيره فيها مع بعض الشرائح الاجتماعية في أحيان أخرى.
في غالبية الهويات الجزئية، نشهد واقعا متحركا، وغير مستقر. فمعظم ما أشرنا إليه من هويات يمكن أن يتغير بسهولة. وكلما تكثفت علاقة الهوية بعدد أكبر من أبناء المجتمع، كلما أصبح الفكاك منها أمراً صعباً.
فالطالب في مدرسته ليست لديه فسحة للتشرنق في هذه الهوية. فهو في كل المراحل الدراسية، بدءا من المرحلة الابتدائية وحتى الدراسات العليا، موجود لهدف محدد، ولفترة زمنية محددة، يغادرها فلا يعود ينتمي إليها ولا يتبقى منها سوى ذاكرة، تحضر أحيانا وتكون غائبة في معظم الأوقات، وبذلك تختفي هويته كطالب.
تلازم الفرد هويته الوظيفية، في حال التخصص، طيلة حياته، لكن هذا النوع من الهويات، لا يشترط تضامنا اجتماعيا جمعيا، إلا في الحالات التي تتشكل فيها روابط مهنية أوحرفية تضم الموسومين بها جميعا. وتظل فاعلية هذا النوع من الانتماء محدودة ومقتصرة على المنضوين في خيمتها. ومثل هذه الهويات الجزئية لا تشكل خطرا جاثما أو حتى محتملا على أمن المجتمع واستقراره. وستظل هذه الهويات قائمة، ولها قوة حضورها ما بقي الكون.
لكن هذه الهويات تظل قاصرة، ووظيفتها محدودة إن لم يسعفها انتماء أعلى تتسع فيه علاقة الفرد لتشمل المجتمع بأسره، بما يسهم في تشكيل الهوية الوطنية الجامعة. مثل هذه الهوية لن تكون إلا نتاجا للتراكم التاريخي، والتغير في الهياكل، وانتقال من القبيلة أو الطائفة كحاضنة وضرورة اجتماعية إلى الدولة المدنية، بما يستدعي تجاوزا عميقا لشبكة العلاقات البطركية القديمة، وقيام الدولة الحديثة.
الهوية الوطنية، هي مفهوم حديث، لكن جذوره تمتد عميقا في الموروث الإنساني العالمي، يجسده تغني الأدباء والشعراء والكتاب بحب الوطن. ولم تكن ثقافتنا ومواريثنا العربية استثناء في هذه القاعدة. أو ليس حب الوطن من الإيمان؟
لكن تقرير هذا الأمر، من قبلنا شيء وقراءته في أطره وبنيته الجديدة هو بالتأكيد شيء آخر. فالحديث عن علاقة الهوية بتجاوز البنيات القديمة ارتبط ببروز الدولة المدنية القائمة على العلاقة التعاقدية. في ظل هذه الدولة يجري تقسيم العمل بين المجتمع والدولة. فتكون هناك استحقاقات وواجبات لكليهما، تستند الهوية إلى ثقافات وأعراف وتقاليد جديدة، وارتباط بجغرافيا وتاريخ، تصنع الهوية الفواصل بين المجتمعات الإنسانية، وتحدد طبيعة التعاون والتفاعل والتلاقح مع بقية التيارات في العالم.
وهنا نميز بين مفهومي الدولة الوطنية والهوية الجامعة، فالأولى لها الطابع العملياتي والطقوسي، والحضور القانوني والدولي، وجملة من العناصر التي تشكل الدولة. فهناك حدود جغرافية، وشعب واستقلال ودستور وطريقة في الحكم وعلم ونشيد وطني، وكلها عناصر تتميز بها عن الدول الأخرى. وهذه العناصر يمكن أن تتغير، وليس لها صفة الثبات النسبي.
لكن الهوية الوطنية، هي شكل آخر مختلف تماما، مرتبط بالعادات والثقافات والمواريث. ولها صفة الثبات النسبي. نعم تتغير هذه العناصر بطريقة تراكمية، ونتيجة طبيعية لتحولات اجتماعية كبرى، كانتهاء الدور العملي للقبيلة، وغلبة الانتماء الوطني على الانتماء للطائفة. وشروط تحقق ذلك مرتبطة بالعدل والمساواة والندية وسيادة مبدأ تكافؤ الفرص.
وجود الهويات الجزئية على هذا الأساس، في الدولة المدنية المعاصرة، رغم كونه احتجاجا على الإنكار، إلا أنه يشكل نكوصا وارتدادا ينبغي العمل بكل الوسائل على تجاوزه، كمطلب ضروري لتحقيق الاندماج في المجتمع، وضمان الأمن والاستقرار، والازدهار للجميع، بتغليب الهوية الجامعة للوطن.
لن يكون مبررا حضور الهويات الجزئية، بعد أن فقدت أسباب وجودها، كضرورة للبقاء واستمرار النوع الإنساني، في خضم الصراع على الكلأ والماء، قبل تشكل الدولة المعاصرة. إن حضورها في زمن غير زمنها، يصبح كما أثبتت التجربة في بعض البلدان العربية، في العقد الأخير، كما هو الحال في العراق والسودان وليبيا، عبئا وعامل تفتيت وفرقة، وتحريض حقيقي على التدخلات الخارجية في شؤون الأمة.
لقد وجدنا القوى التي تتشرنق في هوياتها الجزئية، تعادي الوطن وتسعى بالتعاون مع الخارج، على تمزيقه. في ظل التناحر الداخلي، تستنزف طاقة الوطن، وتغيب التنمية المستقلة، والإرادة الحرة، وتسود لغة المحاصصات والقسمة. يهتم المنضوون للهويات الجزئية بالحصول على مغانم تخصهم، ولا يقيمون اعتبارا أو يعيرون اهتماما للمصالح العليا لأوطانهم.
إعادة الاعتبار للهوية الجامعة، وتغليبها على ما عداها تتطلب سيادة مفهوم المواطنة، وتجاوز تغليب الوجاهات والمحسوبيات، وتجنب سياسات الإقصاء، والابتعاد عن المناطقية والعشائرية والقبلية. وتأسيس كيانات وطنية على أسس معاصرة، والعمل على تأسيس الدولة المدنية بعناصرها المعروفة، وتعميم ثقافة الاجتهاد والتسامح، وسد الطريق أمام الذرائع التي تستثمرها القوى الخارجية لتحقيق اختراقاتها وعدوانها.
فعسى أن تتمكن بلداننا العربية من تعميم روح المواطنة وتغليب هويتنا العربية الجامعة... في مواجهة مشاريع الهيمنة والتفتيت.