قال لي صاحبي: ما الذي يدفع الإنسان إلى أن يخرب شيئا صنعه بيديه؟ قلت مستغربا: وهل يلجأ عاقل إلى أن ينكث غزله بيديه؟ عاجلني صاحبي: ألا تعلم أن أبا حيان التوحيدي مثلا أحرق كتبه بيده؟ ويؤكد ابن سعد في طبقاته أن الحسن البصري أحرق كتبه بنفسه بعدما تنسك، أما سفيان الثوري فقد أوصى عمار بن سيف أن يمحو كتبه التي ألفها ويحرقها، وأبو سعيد السيرافي أوصى ابنه بأن يجعل مكتبته طعمة للنار، وكذلك أوصى أبو قلابة في كتبه، أما يونس بن إسحق فأحرقها بنفسه كما ورد في تقييد العلم، ويذكر الخطيب البغدادي في تاريخه أن محمد بن عمر الجعابي أوصى بأن تحرق كتبه، فأحرقت جميعها، وأحرق معها كتبا للناس كانت عنده. بل إن حاكما مثل نيرون حكم روما عام 68 للميلاد تقريبا قد أحرق مدينته لأجل خيال مريض وهوس سلطة متجبرة!

لم أقنع تماما بهذه الأمثلة؛ خصوصا وأن للأستاذ يوسف زيدان رأيا في قضية ودلالة حرق أبي حيان لكتبه، لكن مبدأ أن يخرب الإنسان أمرا غاليا وعزيزا عليه كان حاضرا في مخيلتي؛ هل هو فعلا نفس المثل الذي ينطبق على من يدك بلاده وشعبه ليل نهار؛ يدمر بلده ويقتل ناسه؛ بيديه! لعله! أظنني بدأت أستوعب مبدأ التخريب باليد؛ قال لي صاحبي: ما رأيك لو تمثل معنى من المعاني في صورة بشر؟ قلت: ما مرادك؟ قال: لو منحت الطب وممارسته حياة فما تراه فاعلا بنفسه يا ترى؟ قلت: لا أدري! قال: الطب يحرق نفسه هذه الأيام! قلت له: ويحك! كيف؟ قال: اختلط الأمر على بعض الأطباء بين الطب كمهنة هي الأشرف على مر التاريخ وبين التجارة والتكسب من الطب! قلت له: وهل يعقل أن يعمل الأطباء دون مقابل؟ قال صاحبي: لا يتكلم بهذا عاقل! قلت له: حيرتني معك، ماذا تقصد؟ قال صاحبي: بل أكثر من ذلك، فإني من دعاة أن يجزل العطاء للأطباء وأن يعاد النظر بشكل شامل وجذري في رواتبهم، وما مسألة توحيد الرواتب التي أثيرت مؤخرا إلا تعميقا للمشكلة وغرسا لمزيد من السهام في قلب الطب المسكين الذي لا يدري لأي سبب عليه أن يحرق نفسه! قلت: وما التجارة التي تتحدث عنها؟ قال لي صاحبي: هي تجارة مع شيء من تصلب شرايين المثل والمبادئ وخشونة في مفاصل الممارسة المهنية! قلت: تابع حديثك، لعلك تقلل من إبهامك وغموضك! قال: ما رأيك في جراحين في قطاع صحي رئيسي كبير يكتفون بالحالات الجراحية البسيطة؛ ويهربون و"لا يقبلون" الحالات المعقدة الخطيرة؟ ومن للمرضى المساكين الذين يتم تحويلهم من هنا وهناك إن لم يقدم هؤلاء على علاج أنفسهم من الجشع والكسل قبل معالجة مرضاهم؟ وما رأيك في أن عددا ليس بالقليل من الأطباء في القطاعات الصحية الرئيسة يعملون في القطاع الخاص، وبعضهم بمعرفة إداراتهم؟ قت له: يبدو أنك تحارب القطاع الخاص؟ قال لي صاحبي: القطاع الخاص ضرورة، لكن تفعيل ودعم الموجود من القطاع العام مهم وضروري! ثم إن وجود المتميزين الأكفاء من الأطباء في القطاع الخاص ضامن لعدم تسرب الجزارين والسباكين ومزوري الشهادات إلى سوق الطب في بلدنا! قلت له: هذا أمر جيد ولا شك! قال لي صاحبي: نعم هكذا تبدأ الأمور سليمة في شكلها الأول لكن يأتيك ما يدفع الطب إلى أن يحرق نفسه؛ طبيب في قطاع صحي عام يحرف ويحور في حديثه لمريضه ليراجعه في عيادته في القطاع الخاص، وليعمل له العملية بمبلغ وقدره في أحد المستشفيات الخاصة، والطبيب الآخر الذي يقوم بعمل جراحات تجميل أو جراحات تخفيف الوزن لكل من احتاجها ومن لم يحتاجها، ويزعم هؤلاء أنهم يشرحون الوضع لمرضاهم تماما، من أعراض جانبية ومضاعفات، وقد ينسون بعضها حسب الزحمة في العيادة أو بسبب انشغال البال بميزانية العيادة في الشهر الماضي التي تجاوزت كذا وكذا، أو بسبب الهم في أعمال الديكور الفنية الفندقية الإيطالية في العيادة الجديدة التي هي أفخم من بهو فندق فرنسي! وما رأيك في موضة رفع أسعار الكشفيات الأولية لبعض العيادات لتصل إلى ألف وألفين بل وثلاثة آلاف عند بعض ممن شوهوا وأساؤوا إلى مهنة الطب، أو ظاهرة الذمم الواسعة من جهة أو البريئة الساذجة من جهة أخرى التي تطلب من التحاليل والفحوصات والأشعة ما يحتاجه وتكثر مما لا يحتاجه المريض. قلت له: ذكر لي أحد الزملاء الأطباء أن مريضة خرجت من زيارة واحدة لطبيب بسبب مشكلة صحية سهلة وشائعة بتحاليل قيمتها ثلاثة عشر ألف ريال! قال لي صاحبي: بل إن أصحاب هذا التغول يعقدون مقارنات سخيفة بزملائهم الذين تخرجوا معهم وفتح الله عليهم في تجارة رابحة أو في إدارة مكتب عقارات يدر على صاحبه ذهبا بعدة مكالمات تلفونية، أو ممن يعمل في إدارات البنوك من ذوي الرواتب الفلكية، وأكثر من ذلك ـ مما يثير الشفقة فعلا ـ أن يقارن هؤلاء الأطباء أنفسهم بمحلات الحلاقة النسائية وأسعار الأعمال المختلفة التي تقوم بها الماشطات، حتى أحسست يوما أن أحد هؤلاء الأطباء يعمل فعلا في أحد هذه المحلات!

لقد غفل عن هؤلاء أنهم أطباء، ولم يكن الطب في يوم من الأيام مصدرا للغنى الفاحش أو سبيلا إلى التكسب السريع من أقصر الطرق. إن هذا النمط من التفكير طغى على طائفة من أطبائنا للأسف فعملوا بكل جد على أن تتحول عياداتهم ومستشفياتهم إلى مكاتب عقار و"صوالين" حلاقة، ومما يزيد الأمر مرارة أن بعض هؤلاء يعيد إنتاج التخلف حين يمرر سلوكياته الشرهة في مجتمعه وممن حوله فلا يعود الناس يحترمون طبيبا أو حتى يثقوا بكلمته ورأيه وتشخيصه، ومن جهة أخرى تجد بعض صغار الأطباء الذين يريدون أن يسلكوا طريق التخصص يبحثون تأثرا بكبرائهم عن تخصص يدر عليهم المال، ولا يبحثون عما يهوونه ويرغبون أن يقدموا فيه الجديد. قلت متأثرا: لقد أحزنتني! أين شرف المهنة؟ أين أخلاقياتها؟ أين البعد الإنساني للمهنة؟ أم أن هذه مثاليات لا تسمن من جوع؟ هل هذه مبالغة؟

قال لي صاحبي: علينا ألا نقسو على الأطباء كثيرا، فهم مهما كان أبناء مجتمعهم ويحملون ثقافته التي تعلي شأن الاستهلاك بأبشع صوره، لقد فهم البعض أنه لا يعتد بحياة له إلا إذا ركب كذا ولبس كذا وكذا وسافر إلى هنا وهناك، سكت صاحبي قليلا ثم أردف: هل تريد أن تعرف سببا آخر يحرق الطب نفسه لأجله؛ الفساد والتسيب الإداري، أخبار المتلاعبين بالثغرات الإدارية وأخبار المتنفذين من مناصبهم وأخبار صفقات الأدوية الوهمية و.... قلت له: لقد أتعبتني! قال لي: إياك أن تحرق نفسك!و!