جدة: الوطن

أضحى العنف والصراع - بحسب ما أظهرته خبرات العديد من الأنثروبولوجيين- أحد مظاهر الحياة الاجتماعية الأكثر شيوعا في المجتمعات المحلية التي تتحدى في العادة التفسيرات البسيطة. من جانب آخر، ثمة احتمال أن يرتد تأثير البعد الرمزي للعنف على مرتكبيه أنفسهم، الأمر الذي يجعل العنف ذاته لا بوصفه فعلا جسديا، بل أدائيا، محل جدل وخلاف في المستوى العملي.

وهذا ما يناقشه كتاب «أنثروبولوجيا العنف والصراع»، تأليف بتينا أي شميدت وأنغو دبليو شرودر، ترجمة الدكتورة هناء خليف غني، والصادر عن دار الرافدين.

سياقات اجتماعية

يتكون الكتاب من 10 فصول، ساهم فيه باحثون من مختلف بؤر العنف والصراع في أنحاء المعمورة، باحثون في العنف والهوية، والسياقات الاجتماعية والكونية وأشكال العنف، وتفسير وجهات النظر العالمية حول العنف، والعنف والثقافة، وأحداث عنيفة في ماضي القبائل، حيث شهد تاريخ الجنس البشري العديد من حوادث العنف والصراع. ولم يقتصر وقوع هذه الحوادث على دولة دون أخرى أو مجتمع دون آخر.

خبرات وجذور

على الرغم من الإجماع العام على التنديد بأحداث العنف، وانتقاد المنخرطين فيها، والمحرضين عليها، وكثرة الدراسات والأقلام التي تناولت ظاهرتي العنف والصراع بحثاً وتحليلاً، واتساع ظاهرة العناية بهما في المستويين الشعبي والرسمي، ما زال البشر يعيشون حياتهم اليومية على وقع أخبار الانفجارات والاغتيالات والاختطافات المفجعة. ما يوجب على المجتمعات البشرية، تبادل الأفكار والاستعانة بخبرات المجتمعات الأخرى وتجاربها، لإلقاء مزيد من الضوء على جذورهما وسُبل الوقاية منهما أو القضاء عليهما.

وفي واقع الأمر، لم تنشغل المجتمعات المعاصرة بمثل ما انشغلت بقضيتيَ العنف والصراع اللذين تعددَت أشكالهما، وتنوعت أدواتهما، واتسعت دائرة حدوثهما حتى أصبحتا تطالان المجتمعات.

ما هو العنف؟

العنف- بأبسط أشكاله- هو تعبير عن القوة الجسدية التي تصدر ضد النفس أو ضد أي شخص آخر بصورة متعمدة، أو إرغام الفرد على إتيان هذا الفعل نتيجة لشعوره بالألم بسبب ما تعرض له من أذى. ويستخدم العنف في أنحاء العالم كأداة للتأثير في الآخرين، كما أنه يُعد من الأمور التي تحظى باهتمام القانون والثقافة، إذ يسعى كلاهما إلى قمع ظاهرة العنف ومنع تفشيها. ومن الممكن أن يتخذ العنف صورًا كثيرة تبدو في أي مكان على وجه الأرض، بداية من مجرد الضرب بين شخصين والذي قد يسفر عن إيذاء بدني وانتهاءً بالحرب والإبادة الجماعية التي يموت فيها ملايين الأفراد.

ماهية الصراع

الصراع هو حالة سببها تعارض حقيقي أو متخيل للاحتياجات والقيم والمصالح. ويمكن أن يكون الصراع داخليا (في الشخص نفسه) أو خارجيا (بين اثنين أو أكثر من الأفراد). يساعد الصراع بوصفه مفهوماً في تفسير الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية، مثل الاختلاف الاجتماعي وتعارض المصالح والحروب بين الأفراد والجماعات أو المنظمات. من الناحية السياسية يمكن أن يشير الصراع إلى الحروب أو الثورات أو النضالات، والتي قد تنطوي على استعمال القوة كما هو الحال في حوادث الصراع. والصراعات في بيئات اجتماعية يمكن أن تؤدي إلى التوترات عند عدم وجود حل سليم لها أو ترتيب مناسب للتعامل معها.

حلول ناجعة

تبين فصول الكتاب، أنه بالنظر إلى الطبيعة المعقدة لظاهرتي العنف والصراع لجهة كثرة العوامل المسهمة في حدوثهما، وتداخلهما مع طيفٍ واسعٍ من الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الحاضنة لهما، فإن الكتابة عنهما على وفق المناهج والمقاربات والنظريات الأنثروبولوجية ليست بالعمل الهين، فهي تتطلب تحليلاً دقيقاً وموضوعياً ومعرفة شاملة بكافة الظروف المنتجة لهما؛ لضمان فهمهما فهماً صحيحاً، ومحاولة التوصل إلى حلول ناجعة تجنب شعوب العالم ويلاتهما.

مفاهيم

تاريخياً، لم يتبلور علم أنثروبولوجيا العنف والصراع في حقل معرفي متكامل مستقلٍ بذاته سوى في الآونة الأخيرة؛ ولكونه فرعاً معرفياً حديث النشأة نسبياً، ما زال العديد من مفاهيمه وممكناته المعرفية موزعة على الفروع المعرفية الأخرى أمثال علوم الاجتماع والسياسة وعلم النفس والدراسات الثقافية وغيرها. يخدم (أنثروبولوجيا العنف والصراع)، الذي يمثل نقطة انطلاق مبدئية مناسبة نحو فهم أنثروبولوجي لظاهرتي العنف والصراع، غرض معالجة هذا القصور ومحاولة تطوير منهج ثقافي لتحليلهما ودراستهما.

خبرات الحرب

يوضح الكتاب - بحسب المترجمة - أن الغاية من دراسة بعض حوادث العنف والصراع المهمة أمثال الحروب الأهلية في ألبانيا (الفصل الخامس)، والصومال (الفصل الثامن)، وسريلانكا (الفصل التاسع)، وسراييفو (الفصل العاشر)، فضلاً عن العديد من حوادث العنف والصراع الأخرى غير المعروفة على نطاقٍ واسعٍ، هي وضع نظرية شاملة للعنف تكون قابلة للتطبيق على وفق مقاربة عبر ثقافية مناسبة. والأهم تمثيل أنثروبولوجيا العنف والصراع أداةً مناسبة تساعدنا في الحدَ من انتشار هاتين الظاهرتين في عالمنا المعاصر.

وهناك فصل عن حروب البلقان بالتسعينات، يُعنى بدراسة الآلية التي تؤثر بوساطتها خبرات الحرب في تصوراتنا عن الحرب، وبالتالي، تُغيرها. وكان محور الدراسة حصار سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك في المدة من 1992 إلى 1996.

ذاكرة اجتماعية

تجربة الدراسة عن تلك الحرب خلصت إلى «عجز الناس عن نسيان أفكارهم وذكرياتهم عن حياتهم في أوقات السلم العادية أو على الأقل تجاهلها». ويبدو الأمر كما لو أن رفضهم إدراك النتائج المحتملة لما يدور من حولهم سيحميهم، إلى حدٍ ما، من الشيء الذي يخافون منهُ. وفي واقع الأمر، يكشف حديث السراييفويين عن الحرب عن اعتقادهم أنها لن تستمر طويلاً، كما تبينّ التجربة السراييفوية أن حاجة الناس إلى رمي أحداث الحرب وراء ظهورهم، من دون نسيانها طبعاً، هي التي فسحت المجال أمام تبسيط التعقيدات التي تنطوي عليها هذه الأحداث، وبالتالي، تحويلها إلى طقس شعائري. بناءً على ذلك، بالإمكان القول إن ذاكرة الحرب الاجتماعية، تتأثر بالحاجة إلى مشاطرة خبرة الحرب، والتي، بدورها، تؤدي إلى معاملة الحرب كونها طقساً شعائرياً يتمحور حول هذه التواريخ والأحداث والأشخاص الذين يمكن أن نضفي عليهم معنى جماعياً مميزاً.

مخطط مفاهيمي للمراحل المؤدية الى الحرب الأهلية

المرحلة الأولى

الاختلافات الثقافية

المرحلة الثانية

الاختلافات في المصالح

المرحلة الثالثة

التوتر

المرحلة الرابعة

الصراع

المرحلة الخامسة

اندلاع أعمال عنف متقطعة

المرحلة السادسة

الحرب الأهلية المنتظمة