محمد السعيدي

المعلوم أن علماء الإسلام أجمعوا على حُرمة عمل المجسمات ذوات الظل التي على هيئة ذوات أرواح تامات الخِلقة، ولم يكن ذلك خاصا بمذهب من مذاهب أهل السنة دون مذهب، وليس خاصا بالسلفيين أو مدرسة ابن تيمية وابن عبد الوهاب، كما يُثيره البعض، حيث قال النووي الشافعي: «وأجمعوا على منع ما كان له ظلٌّ، ووجوب تغييره»، وقال القاضي: «إلا ما ورد في اللعب لصغار البنات والرخصة في ذلك»، وقال ابن العربي المالكي - رحمه الله: «فإنها - أي الصور- محرمةٌ إذا كانت أجسادا بالإجماع».

إذن فالأمر المُجمع عليه هو ما يحمل الصفات التالية:

-1 أن يكون تمثالا لذي روح.

-2 أن يكون مجسما، وعبروا عنه بكونه ذا ظل.

-3 أن يكون كامل الخلقة.

فإذا لم يحمل التمثال المجسم هذه الصفات، فاختلف العلماء فيه، فمنهم من حرمه ومنهم من كرهه ولم يُحَرِّمه.

وقد استشكل أحد الإخوة الكتاب ما كتبه العلامة شهاب الدين القرافي - رحمه الله - في كتابه «نفائس الأصول في شرح المحصول» أنه صنع شمعدانا، هو عبارة عن آلة منبهة لأوقات الصلاة، ووضع فيها مجسما لآدمي ومجسما لأسد، وأن هذين المجسمين ينبهان لدخول أوقات الصلاة. وطلب الكاتب أن يُدرس هذا النص، لأنه يدل برأيه، مع على أن المسلمين لم يكونوا مجمعين على تحريم المجسمات، وأنهم لا يمنعون منها إذا كانت ذات فائدة، واستأنس لرأيه بما ذكره من كون الصحابة لم يهدموا التماثيل أو يَتَعَدَّوا على الرسوم التي مروا بها في فتوحاتهم.

وتوضيحا لما استشكله الأخ الكريم أُبَيِّن:

إن «القرافي» - رحمه الله - لم يخرج عن الأمر المُجمع عليه في تحريم المجسمات، وقد بَيَّن ذلك في كتابه «الذخيرة»، الذى فَصَّل فيه أبْدع تفصيل، وسوف أنقل نصَّه بعد قليل وأُعَلِّقُ عليه، لكني قبل ذلك أنتقل إلى جواب سؤال قد يتبادر إلى بعض الأذهان: هل خالف «القرافي» فتواه بأن عمل بما يراه مُحَرَّما؟ أم أن هناك شيئا غير واضح في فتواه بكتاب «الذخيرة» أو حكاية صنيعه في كتابه «نفائس الأصول»؟.

الجواب: أما عن الشق الأول فهو غير المظنون في عالِم مثل «القرافي» أن يعمل بخلاف ما يفتي به، فضلا عن أن يجاهر بهذه المخالفة، ولو حدث ذلك عند «القرافي» أو عند غيره من العلماء، فمع أن الأصل إحسان الظن بهم إلا أنهم ليسوا معصومين من الخطأ والزلل، فيبقى المُعَوَّل عليهم هو فتاواهم إذا تعارضت مع عملهم.

لذلك علينا أن نقرأ نص ما قرره «القرافي» في كتاب «الذخيرة» حول التماثيل، حيث قال - رحمه الله: «لَا ‌يَجُوزُ ‌عَمَلُ ‌التَّمَاثِيلِ ‌عَلَى ‌صُورَةِ ‌الْإِنْسَانِ ‌أَوْ ‌شَيْءٍ ‌مِنَ ‌الْحَيَوَانِ لِقَوْلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُقَال لَهُم أحيوا مَا خلقْتُمْ»، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ»، وَالْمحرم من ذَلِك بِإِجْمَاع مَا له ظلّ قَائِم على صفة مَا يحيى مِنَ الْحَيَوَانِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الرُّسُومِ فِي الْحِيطَانِ وَالرُّقُومِ فِي السُّتُورِ الَّتِي تُنْشَرُ أَوِ الْبُسُطِ الَّتِي تُفْرَشُ أَوِ الْوَسَائِدِ الَّتِي يرتفق بهَا مَكْرُوهَةٌ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ فِي صَحِيحِ الْأَقْوَالِ، لِتَعَارُضِ الْآثَارِ، وَالتَّعَارُضُ شُبْهَةٌ، وَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، حيث يَحْرُمُ الْجَمِيعُ مَرْسُومٌا فِي حَائِطٍ أَوْ سُتُرٍ أَوْ غَيره وَإِبَاحَةُ الْجَمِيعِ، وَإِبَاحَةُ غَيْرِ الْمَرْسُومِ فِي الْحِيطَانِ وَالرُّقُومِ فِي السُّتُرِ الَّتِي تُعَلَّقُ وَلَا تُمْتَهَنُ بِالْبَسْطِ وَالْجُلُوسِ عَلَيْهَا وَالَّذِي يُبَاحُ لِلَعِبِ الْجَوَارِي بِهِ مَا كَانَ غير تَامّ الخلفة لَا يحيى مَا كَانَ صُورَتُهُ فِي الْعَادَةِ كَالْعِظَامِ الَّتِي يُعْمَلُ لَهَا وُجُوهٌ بِالرَّسْمِ كَالتَّصْوِيرِ فِي الْحَائِطِ، وَقَالَ أَصْبَغُ الَّذِي يُبَاحُ مَا يُسْرِعُ لَهُ البلا، وقَالَ فِي الْبَيَانِ وَإِنَّمَا اسْتُخِفَّ الرُّقُومُ فِي الثِّيَابِ، لِأَنَّهَا رسوم لَا أجاسد لَهَا وَلَا ظلّ شبه الْحَيَوَان وَلَا يحيى فِي الْعَادَةِ مَنْ هُوَ هَكَذَا، وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى مَا يُمْكِنُ لَهُ رُوحٌ، فَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ، وَجَازَ لَعِبُ الْجَوَارِي بِهَذِهِ الصُّوَرِ النَّاقِصَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْلَمُ بِلَعِبِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِهَا وَبِسَيْرِهَا إِلَيْهَا فَيَجُوزُ عَمَلُهَا وَبَيْعُهَا، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَهْذِيبُ طِبَاعِ النِّسَاءِ مِنْ صِغَرِهِنَّ عَلَى تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ، كَمَا أُلْهِمَ كُلُّ نَبِيٍّ فِي صغره رِعَايَة الْغنم، ليتعود سِيَاسَةِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ فِي الْغَنَمِ يَمْنَعُ قَوِيَّهَا عَنْ ضَعِيفِهَا وَيَسِيرُ بِسَيْرِ أَدْنَاهَا وَيَرْفُقُ بِصِغَارِهَا وَيُلِمُّ شَعَثَهَا فِي سَقْيِهَا وَمَرْعَاهَا، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِأُمَّتِهِ عِنْدَ نُبُوَّتِهِ» (الذخيرة 13/286).

نستفيد من هذا النص أن «القرافي» - رحمه الله - يُثبت تحريم صناعة التماثيل التي على هيئة إنسان أو حيوان حي، ويحكي إجماع العلماء على ذلك، ويُثبت أن العلماء مع إجماعهم على هذه المسألة مختلفين فيما سواها من مسائل التصوير بين التحريم والكراهة والإباحة، وأجاز الصور الناقصة للحاجة، وهي ما كانت تحاكي التماثيل وليست تماثيل، ومَثَّل لها بما كانت تصنعه عائشة - رضي الله عنها - من اللعب بالأعواد تُحاكي بها البشر، وذكر أن الحاجة قائمة لذلك، لتعليم الأطفال، ولا سيما البنات منهم.

وبهذا التقرير يمكننا الجمع بين ما ذكره «القرافي» في «نفائس الأصول» من صناعته تمثالين لآدمي وأسد، وبين تحريمه صناعة التماثيل في كتابه «الذخيرة»، بأن التماثيل التي صنعها في الشمعدان ليست تماثيل كاملة بل وجوه مطموسة المعالم أو ترمز للإنسان وليست على هيئة إنسان حقيقي.

كما أننا ينبغي أن نلتفت إلى تقييده - رحمه الله - ذلك بالحاجة، وهو ما ذكره الكاتب - حفظه الله - في سؤاله عن إمكانية إباحة التماثيل للحاجة، فيجاب بنعم وفق فتوى «القرافي» على أن لا تكون بمنزلة إنسان قائم.

أما سؤاله: هل كان المسلمون في ذلك الزمان بصدد صناعة روبوت؟، فالجواب: نعم، لقد كان «علم الميكانيك»، وكانوا يُسَمُّونه «عِلْمَ الحِيَل» أو «علم القُوَى المحرِّكة»، متقدما عند المسلمين، وفي وقت مبكر، ولا يخفى على أحد تلك الساعة العظيمة التي أهداها هارون الرشيد لـ«شارلمان»، ملك فرنسا، التي ركَّبها مهندسون عرب في ديوان «شارلمان» بعد أن أحضروا أجزاءها معهم من بغداد، وكانت تتكون من اثني عشر صندوقا على هيئة ما نسميه اليوم «دولاب ملابس»، وعلى رأس كل ساعة يخرج من أحد هذه الصناديق فارس يخبر عن الساعة. وقد ذكر المؤرخون الفرنسيون أن «شارلمان» أمر بتكسيرها، لأنه خاف منها، وظن أنها تتحرك بفعل الشياطين.

وقد ذكر «ابن النديم» في كتابه «الفهرست» و«حاجي خليفة» في «كشف الظنون» العشرات من كتب الميكانيكا، وكلها تؤكد أن المسلمين لم يكن ينقصهم لتطوير هذا العلم سوى اكتشاف الطاقة، والمؤسف أن مؤلفات المسلمين في هذا العلم وغيره من العلوم مثل الفيزياء والرياضيات لا تزال حبيسة مكتبات المخطوطات، ولم يتم تحقيقها ونشرها، بل إن كثيرا منها سطا عليه الأوروبيون وترجموه ونشروه بأسمائهم، وهذه دعوة لجامعاتنا السعودية إلى فتح باب تحقيق التراث العلمي في الرياضيات والفيزياء وعلم الحيل والهندسة والطب، ليعلم شبابنا مقدار وقيمة التراث الذي خلفه آباؤنا، لا لننطلق منه بل لنحفظ حقبة علمية تاريخية مهمة من حياتنا.