خالد العويجان

في الحياة الطبيعية، العودة عن أمرٍ يشوبه الخطأ، يُحسب من باب التصحيح أو الانكفاء عن الباطل والعودة إلى الحق. أما في السياسة فلذلك ألف باب وجواب، وألف تفسير وتفسير، وألف سبب وسبب، وألف نتيجة ونتيجة. وقس على ذلك فيما لو افترضنا الأمر بشكل عكسي. بمعنى الخروج عن طريق الحق إلى الباطل «في السياسة»، فعلى الفاعل هنا انتظار النتائج وتحمل ردود الأفعال، وتقبّل فراغ الحجّة ما إذا فرض الواقع ضرورة العودة عن موقفٍ ما، بمواجهة دولةٍ ما، لسببٍ ما ولو بعد حين. حينها لن تكون الأمور حسب المزاجية السياسية لا سيما المضطربة والمتقلبة، وستكون جميع الأوراق على الطاولة محروقة. لفت انتباهي يوم الإثنين الماضي؛ التحول الدراماتيكي الذي طرأ على خطاب السياسة الخارجية التركية باتجاه المملكة، إذ أبدت أنقرة استعدادها للسير قُدمًا في تصحيح مسار العلاقات السعودية – التركية، التي شابها ما شابها خلال الفترة الماضية، وبكل وضوح، أقول إن الدولة التركية تتحمل المسؤولية الكاملة، بانحراف الخط السياسي عن وضعه الصحيح.

وذلك في نهاية الأمر يمنح درسًا سياسيًا بمثابة جرس إنذار يمنع تكرار ذلك الأسلوب السياسي البعيد كل البعد عن المصالح الدولية، ويقترب بنسبة كبيرة إلى الأهواء الشخصية، التي تلفظها علاقات الدول ببعضها البعض. لا يُمكن أن أُخفي ليس تفاؤلي، بل أمنياتي بأن تصح تلك التوجهات التركية، التي أعلن عنها الناطق بلسان الرئاسة التركية من أنقرة، والذي جاء على ذكر أحد الأوراق أو الملفات التي تسببت في تصعيد الأزمة ليس من الناحية السياسية فحسب، بل وحتى الشعبية، حين لجأ السعوديون لمقاطعة المنتجات التركية، كإجراء تأديبي للحكومة التركية، وهو ما عاد بنتائج إيجابية على المدى القريب والمتوسط، وشكّل في ذات الوقت أقصى حدود وفاء الشعوب لدولها، والذي يكاد يكون مفقودًا إلا في عدد من دولنا المحيطة وعلى رأسها المملكة.

رحّب إبراهيم كالين مستشار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في حديثٍ مع رويترز، بمحاكمة مرتكبي جريمة قتل الزميل جمال خاشقجي - رحمه الله -، وهذا الموقف بالمناسبة يمثل المرة الأولى التي تخرج فيها أنقرة عن صمتها لاحترامه كما قالت، بعد سنوات من اللت والعجن والخروج عن السياق الدبلوماسي والإنساني والأخلاقي من حيث توظيف هذا الملف أو هذه القضية سياسيًا.

ولي قولٌ في ذلك، يتمحور حول عدم حاجة لا المملكة ولا القضاء السعودي لهذه الشهادة إن صحت تسميتها، فالقول الفصل تم النطق به دون إعارة أدنى اهتمام للجعجعة القادمة من قريب أو بعيد، بحضور مندوبي عدد من الدول العاملين في المملكة. هذا أولاً. ثانيًا، في ذلك ثبات على بطلان الرواية والحجج التركية، وكشف دعاية وزيف أدلة قالت يومًا إنها تملكها حول القضية. ثالثًا وذلك الأدهى والأقسى على صانع القرار، وهو فراغ المحتوى والمضمون السياسي الذي سيكتشفه أو ربما اكتشفه المواطن التركي في سياسة دولته، من خلال مناقضة صانع القرار نفسه بنفسه.

لكن لماذا كان موقف أنقرة بهذا الشكل لا أريد القول «الاندفاع» ولا «العقلاني»، إنما الذي تسيره «الضرورة». باعتباره ليس عودةً للحق، بقدر ما هو نتيجة اصطدام السياسة «الإردوغانية» بحائط العزلة والأنفاق المظلمة، من خلال اختلاق الخصومات ذات الصفر مكاسب، لا سيما مع المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر.

أتصور وفق تحليلي الشخصي المتواضع، أن الموقف الرئاسي التركي كان نتيجةً بأن الدولة وجدت نفسها عند حدٍ معين، مجبرةً على العودة عن السير في فلكٍ بشكل منفرد والرجوع للمنطقة، بدلاً من افتعال الخصومة، وذلك تجسد قبل أسابيع برغبةٍ تركية بفتح قنوات اتصال مباشرة مع مصر، وبالتالي بديهيًا، لا يمكن أن تكون القاهرة بمعزل عن المملكة في التعاطي مع هذا الملف، لتقاطع المصالح في خطوط الخلاف القائمة مع تركيا، كالملف الليبي وجماعة الإخوان المسلمين والتدخل في الشؤون الخاصة لتلك الدول.

لا أريد أن أكون مُتشائمًا في نظرتي لتلك المبادرة، لكني بذات الوقت لا يُمكن أن أكون عاطفيًا إلى حد السذاجة، لأنسى ما تعرضت له بلادي على مدى سنوات قريبة مضت، من هجوم يكاد يكون الأشرس، جُند له من قبل تركيا ومن يدور في فلكها، جميع الطاقات وكل أشكال نوافذ إعلام الأرض، إلا أن المملكة تعاملت في هذا الصدد بكثير من الحلم والحكمة، والنفس الطويل.

يُمكن أن أنتهي ببعض الملفات التي حملت أنقرة على عاتقها إيذاء بلادي عبرها خلال وقتٍ مضى، فإضافة إلى قضية خاشقجي التي أكد يومًا رجب طيب إردوغان أمام حزبه وقال «لدينا معلومات ووثائق ولا داعي للتعجّل»، فقد برر يومًا ما استهداف المنشآت النفطية في المملكة من قبل جماعة الحوثي المتطرفة، وقال نصًا «لنتذكر من بدأ بقصف اليمن أولاً»، بعد أن أيد عاصفة الحزم في 2015 وأبدى استعداده لتقديم الدعم اللوجستي للمملكة، وغير ذلك كثيرٌ من الملفات المفتعلة لا يتسع المجال لذكرها.

ما أستطيع استخلاصه في منتهى الحديث، أنه إذا كان صانع السياسة والقرار في أنقرة، ينتظر مزيدًا من المكاسب من تقلب المواقف، فأقول إن العقل السياسي والشعبي السعودي، ينظران للدولة التركية بكثير من الريبة والحذر، وأنا على يقين بأن المملكة العربية السعودية دولة وشعب لا تتأثر بنبرة حديثٍ وخطاب تحول بشكلٍ طارئ من خصوماتٍ مُعلنة، إلى محبةٍ مفاجئة، ولا مجال لديها لمنح مزيد من فرص حسن النوايا الثقة الكاملة؛ فـ«لا طريق مفروش بحسن النوايا إلا الطريق إلى جهنم».

أستطيع الآن أن أنتهي للقول، إننا لن نأبه لخصومتكم، وفي ذات الوقت لا نحتاج لمحبتكم. فانصرفوا واسلكوا طريقكم بانتظار حسن النوايا.. إلى جهنم.