عبلة مرشد

ترتكز التنمية المتوازنة للمناطق على توزيع المشاريع التنموية على مناطق المملكة كافة، لاستثمار ما يتوفر فيها من ممكنات وثروات مكانية وبشرية بما يكفل استدامتها، وبما تحتاجه المناطق من تطوير وتعزيز الخدمات العامة المطلوبة في حياتنا اليومية، والتي تنامت متطلباتها بمفرداتها المتنوعة، وبحاجاتها التقليدية والعصرية، فالذي كان من الكماليات والرفاه بالأمس، أصبح اليوم من الضرورات المطلوبة لمختلف الشرائح بمستويات متباينة.

تحمل رؤية 2030 ضمن ملفاتها الإستراتيجية كثيراً من مرتكزات متطلباتنا التنموية والتطويرية، بما يليق بالسعودية اليوم والمستقبل، والتي احتوتها برامج ومبادرات تتوالى ترجمتها إلى مشروعات ومخرجات تنموية، تزامنت مع بداية إطلاق الرؤية برعاية ومتابعة حثيثة من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بهدف تغيير مسار التنمية البطيئة لتخرج من رتابتها وجمودها الهيكلي، ولتحويل مسارها نحو الاستدامة الفعلية في جميع توجهاتها، وفي جميع المناطق التي تشكل الكيان الجغرافي للسعودية.

يعد إطلاق مشروع إنشاء مكاتب إستراتيجية لتطوير عدد من مناطق المملكة؛ نواة لتأسيس هيئات تطويرية بها، والذي يؤسس لانطلاق خطة تطويرية وتنموية شاملة لمناطق ثرية بممكناتها وثرواتها، وشمل المشروع كلاً من مناطق الباحة، والجوف وجازان، بما يستهدف تعظيم الاستفادة من تلك الممكنات النسبية والتنافسية في المناطق الثلاث، بما يهيئ لبيئة استثمارية واعدة، لتكون مناطق جاذبة للاستثمار في جميع مقوماتها الجغرافية وموروثها التاريخي والحضاري، في إطار تشاركي مع القطاع الخاص باعتباره شريكاً في التنمية ومسؤولاً عن التعاون في تحقيق مستهدفاتنا الإستراتيجية.

ينعكس مردود نشاط المكاتب الإستراتيجية لتطوير المناطق، في مشروعات تستثمر مقومات المنطقة الجغرافية والتاريخية والبيئية والحضارية، وتعمل على توفير متطلبات البنية التحتية المناسبة، بما يتيح توسيع فرص العمل المتنوعة لجميع أبناء المناطق، ويسهم في رفع مستوى جودة الحياة ويسهم في الارتقاء بالخدمات الأساسية والبنى التحتية في مناطق المملكة، علاوة على دورها في بلورة مرتكزات رؤية 2030 في خلق اقتصاد مزدهر ومتنوع وبناء مجتمع حيوي يحقق تطلعات وطن طموح.

إنشاء مكاتب إستراتيجية في المناطق المذكورة، سيمكن من الاستفادة من مواردنا البشرية المواطنة المتاحة في التخصصات العلمية بمستوياتها المختلفة، سواء في الجغرافيا والتاريخ أو في التخصصات الأخرى التي تخدم التنمية في متطلباتها التقنية والخدمية المختلفة، بما يحقق الاستثمار الشامل لمواردنا الوطنية المتاحة من ممكنات موجودة أو موارد بشرية أنفقت الدولة على تعليمها وتهيئتها لتمكينها من المشاركة في بناء الوطن برؤيته المشرقة.

تعد الباحة من إحدى أهم مناطقنا السياحية بما تحتويه من غابات طبيعية وأجواء مناخية جاذبة، وبما تقتنيه من تراث تاريخي يمثل حضارة شاهدة على إرث بشري، يعكس قيمة سياحية وحضارية توارثتها الأجيال، وتسعى للمحافظة عليها، بينما تزخر منطقة جازان الواقعة في الجزء الجنوبي الغربي من السعودية، بكثير من المميزات الاقتصادية في القطاع اللوجيستي، والزراعي والتراثي والبيئي، إذ يمثل ميناء جازان ثالث موانئ المملكة على ساحل البحر الأحمر من حيث السعة، علاوة على تميزها بتنوعها البيئي والمناخي، وهي البوابة الرئيسة لجزر فرسان، وتحتضن المنطقة آثاراً تاريخية تعود لنحو 8 آلاف سنة قبل الميلاد، كما أن تنوع محاصيلها الزراعية القيمة يجعلها إحدى أهم مناطقنا الزراعية الواعدة بالاستثمار في توفير متطلبات أمننا الغذائي.

وتبرز منطقة الجوف في الجزء الشمالي الغربي من السعودية، بثرواتها التي جمعت فيها ما بين جمال الظروف الطبيعية والمناخية، وما تضمه أراضيها من تراث تاريخي للحضارات الإنسانية البائدة في تلك المنطقة، لكونها تمثل أقدم مناطق الاستيطان البشري في شبه الجزيرة العربية، إذ يعود وجودها تاريخياً إلى فترة العصر الحجري القديم، وبها شواهد تاريخية قائمة للحضارة الإسلامية في عصر النبوة والخلفاء الراشدين، ومن جانب آخر، فإن الجوف تعد كذلك من إحدى أخصب المناطق الزراعية في السعودية، وبها مشروعات زراعية استثمارية قائمة تجعلها تمثل «سلة غذاء المملكة»، فهي تنتج نحو %67 من جملة الإنتاج المحلي المتميز لزيت الزيتون في السعودية، علاوة على تميزها باعتدال مناخها صيفاً لموقعها الجغرافي في الجزء الشمالي الغربي من الوطن، إضافة إلى غنى تربتها وباطنها بالمياه الجوفية العذبة.

تحقيق التنمية المتوازنة في المناطق، عبر تلك المكاتب الإستراتيجية والهيئات التطويرية المعنية بالاهتمام باستثمار مقومات المنطقة وممكناتها من واقع المعطيات الفعلية؛ يسهم في الوقوف عن كثب على حاجات المنطقة التنموية ومتطلباتها الحقيقية، ويحد من المركزية في إدارة الخطط التنموية وفي تنفيذها ومتابعتها، إذ إن القرب المكاني للجهة المسؤولة والمعايشة لظروف المنطقة، يحسن من فرص الاستثمار فيها ويعزز من استشعار قيمة مقدراتها، ويعمل على تصويب وجهة السياسات المحلية للمنطقة ما بين القطاعات المختلفة فيها، بما يخدم التنسيق بينها والتعاون على العمل كفريق مشترك يستهدف تحقيق مشروع تنموي محلي متكامل، ينعكس مردوده على المنطقة في تنمية مستدامة شاملة، تسهم في الحد من حجم الهجرة الداخلية نحو المدن الرئيسة، بما يتيحه من فرص عمل للمواطنين في مشروعات متنوعة، علاوة على ما يستفيد منه الوطن في تحقيق أهدافه التنموية المتوازنة لجميع المناطق، بما يصب في الصالح الوطني بمجالاته المختلفة اجتماعياً واقتصادياً.