معتصم باكراع

قطعة أدبية ساحرة، تغوص عيناك في الاستمتاع بتفاصيل الكلمات المسكوبة بأريحية النص عند مقال تقرأوه أو قصيدة تقف عند نفثات السجع أو نثر يخطو في حالة عاطفية شعورية معينة.

وبين المقال والقافية والنثر تأتي الرواية، لتخط لك بدايات التساؤلات، ونهايات كاتب أراد أن يختم النهايات بامتداد الفكرة دون وضع النقطة الأخيرة، مما حملك عبء الكلمات إلى نشوة النص. وحينما يتجسد ذلك النص على خشبة المسرح في رواية أحداثها تراجيدية كلاسيكية خالدة، تعبق بشغف العاطفة ووجدان الأمل، يخفقه ممثل جسد دور البطولة بقوة الحضور، تتعالى الصقفات، لتخترق نخبوية المشهد، بعد الوقفات التي تسربلت بأناقة الحرف وانسيابية المعنى.

حتى ذهاب تلك الرواية إلى عمل سينمائي رائع ماتع، يجعلك تتنقل من المشهد إلى المشهد بين عواصم متجددة نابضة بمشاهد الحياة المختلفة، فيحصد الفيلم جائزة الأوسكار من الرواية التي ترجمت بلغات متعددة، وصولا إلى المسرح الذي نال حظا من ربيع الرواية إلى عتبات الفيلم السينمائي، التي تعدو مشاهداته أفضل الانتصارات الواعدة للنص.

ومن عدسة الفنان الأدبية إلى اللوحات المرسومة القابعة في المتاحف بين فان جوخ وبيكاسو خيط رفيع من بقايا مشاعر إنسانية، تتعالى أصواتها في زخم اللوحة، وتنهال بالخيال من الواقع بإصرار الفرشاة، لتسكن في تعددية ملامح الحياة من التجربة الإنسانية إلى إحداثيات لون، يجمل الفكرة ويزين اللوحة تحت إيقاعات فنان أراد أن يصف مشاعره على سجية إبداعه.

وإما موزارت وبيتهوفن، وأولئك الموسيقيين الذين يسمعون ضجيج العالم بلا مبالاة تحت سطوة أنغامهم، فيترنمون في أحضان نوتة موسيقية، تعبث بطلاقة السمع إلى الصدى الذي يترجم انفعالاتهم مع ارتفاع النغم أو انخفاض الوتر.

الكاتب، الممثل، الرسام، والموسيقي أولئك الذين يقرأون العالم بذواتهم الحسية، ويترجمون صخب الحياة بموجة شعورية وجودية، تسرح في متاهات أفكارهم نحو إنسانيتهم الموازية للحياة المتلاطمة كالأمواج ما تكاد تفتك بين المد والجزر، فتستمد قوتها من تذبذبات العالم، ويترجمونها في إبداع مترامي الأطراف من بداية الشعور حتى إخراج الأطروحة.

وبطبيعة تكوينية الكاتب، فهو لا يرى العالم إلا من خلال الكلمات، وحين ينتهي النص، ويضع النقطة، ينتهي ذلك الصراع النصي الذي تمخض من وحي الكلمات التي نزفت أنين عذوبتها عند التقاء أفكاره بمداراة نص تلو الآخر دون انقطاع، فالكلمات تنهال عليه من هشاشة المواقف إلى أعقدها سطوةً، وحينما يكتب يستمتع بإرساء انبعاثات الأحرف بين مقلة عينيه حتى التقاءات أنفاسه.

جدير بالذكر أن الممثل يعيش النص، ويكتبه بعزة حضوره، وكلما كان الممثل حاضرا أجاد أداء العمل، حتى إن بعضهم يعيشون الدور إلى خارج قاعات التصوير، وما تكاد تنتهي كواليس الفيلم أو المسلسل بسلام، في طغيان واستمرارية للحضور القابع في تساؤلات الدور وأصالة المشهد.

مما لا شك فيه أن الرسام هو فنان بسليقة الفطرة، عدسته هي العالم، مرهف الحس، نبيل المشاعر، يجيد قراءة المواقف، ويعكسها بالألوان، الساحرة ليعبر عن نفسه، وتجليات الحياة عليه.

ومن زاوية أخرى، الموسيقي يمتلك حاسة سمع لطيفة في تقاطعاتها، فيختال بين ردهات الصمت، ليعزف الإيقاع في أبهى الحلل.

وبناء على ذلك، فإن الفن هو الإبداع في الطرح، فليس كل كاتب يخلد في التاريخ، وليس كل ممثل يحصل على جائزة أوسكار، وليس كل موسيقي يمتلك أذن موسيقية، ولا كل رسام يمتلك ريشة آسرة. إننا في عالم يتسارع بوتيرة التجربة الإنسانية، فكلما نضج الإنسان انحسرت اختياراته، ووقف بتأمليات المشهد الذي أنجب الكتاب والروائيين، وسطر كاريزمية الممثلين، ورسم لوحة فنان.

ما أقرأ له اليوم قد لا يعجبني غدا، وما أشاهده يعتلي خشبة المسرح قد فقد الكثير من التألق، والموسيقي الذي كنت استمتع بمقطوعته أصبحت موسيقاه خاوية باهتة، فكلما تعرض الإنسان للفن استطاع أن يفرق بين الأصل والصورة، حتى يذوب في التفاصيل التي تعطيه لذة النص، وبساطة المشهد، وعذوبة الصوت، وجمالية اللوحة.

وقد قال بابلو بيكاسو، في عهد مضى: «كل ما تتخيله هو حقيقة»، فالخيال هو ما يصنع الفنان، ويغذي بصيرته.