محمد بن منصور العتيبي

ورد في أحد الشواهد الأركيولوجية نص قديم يعتقد أنه لأحد صكوك الزواج يعود تاريخه إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وفيه يقول الزوج موجهًا كلامه لزوجة المستقبل (منذ اليوم أقر لك بجميع الحقوق الزوجية ومنذ اليوم لن أفوه بكلمة تعارض هذه الحقوق ولن أقول أمام الناس أنك زوجةً لي بل سأقول بأنني زوجًا لكِ، منذ اليوم لن أعارض لكِ رأيًا وستكونين حُرّةً في غدوك ورواحك دون ممانعة مني، كل ممتلكات بيتك لكِ وحدكِ وكل ما يأتيني أضعه بين يديك).

يعود هذا الصك كما يعتقد إلى العصر الأمومي ويكشف بدقة عن قدم تشريع منظومة الزواج إذ يعتقد علماء الأركيولوجيا أنها تزامنت مع عصر الثورة الزراعية وقبل ظهور الأديان بزمن طويل.

ثم جاءت الأديان فأحاطت هذه المنظومة بالتقديس ووضعت لها شروطًا وأحكامًا دقيقة.

في الشريعة اليهودية على سبيل المثال نجد أن كامل العصمة في يد الرجل فقط ولا توجد أي طريقة لفك هذا الرباط إلا بإرادته وموافقته. كما جاء في سفر التثنية الإصحاح (24): إذا جاء رجل امرأة وتزوج بها ولم تجد نعمة في عينه لأنه وجد فيها عيبًا كتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته.

بل وأجازت الشريعة اليهودية حالات يطلق الرجل فيها المرأة دون أدنى حقوق لها مثل أن يجد فيها عيبًا خلقيًا، أو أن تكون عقيمًا أو يتكرر إجهاضها أو ألا يجدها بكرًا.

جاءت المسيحية بعد ذلك فخففت هذه الحدة وأصبح للمرأة خيارًا في الانفصال وأن يكون الأمر بالتراضي أو يمنح الحق للكنيسة بالطلاق.

وهنا سأتوقف قليلًا للإشارة إلى أمر مهم يشرح عنوان هذا المقال. فالارتباط في الشريعة النصرانية هو على طريقة الميثاق، وهو ذات الارتباط الذي أشار إليه القرآن بـ «الميثاق الغليظ» ﴿وَإِن أَرَدتُمُ استِبدالَ زَوجٍ مَكانَ زَوجٍ وَآتَيتُم إِحداهُنَّ قِنطارًا فَلا تَأخُذوا مِنهُ شَيئًا أَتَأخُذونَهُ بُهتانًا وَإِثمًا مُبينًا وَكَيفَ تَأخُذونَهُ وَقَد أَفضى بَعضُكُم إِلى بَعضٍ وَأَخَذنَ مِنكُم ميثاقًا غَليظًا﴾ [النساء: 20-21]

الزواج إذا ميثاق غليظ وليس عقدًا بين الرجل والمرأة، وانفكاك الميثاق هو ما يشار إليه بالطلاق. وفي القرآن الكريم لا وجود للطلاق إلا في زواج الميثاق.

ما الفرق بين الميثاق والعقد؟

الميثاق إجراء مقدس فهو مشتق من الثقة المعطاة للطرف الآخر، والرباط الوثيق الذي لا يتم إبرامه إلا عن ثقه واعية من الطرفين للقيام بواجبات هذا الميثاق بما من شأنه تحقيق حماية الأسرة. كما وصف هذا الميثاق بالغليظ دلالةً على قوته وعظمته وأهميته واستشعار أطرافه بالمباركة الإلهية له وما يترتب عليه من حقوق وبذل وتضحيات. فهو كالثوب الغليظ الذي يعسر شقه أو تمزيقه. «هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ» [البقرة: 187].

أما ماهو رائج في مجتمعاتنا الإسلامية هو زواج العقد وهو خليط ما بين الزواج على الشريعة اليهودية والمسيحية حيث إنه جمع ما بين أن العصمة في يد الرجل وأيضًا يحق للزوجة (الخلع) في حال عدم رضاها على الاستمرار في هذه العلاقة ولكن زواج العقد لا طلاق فيه، فالعقد إجراء (مدني) يضبطه القانون والعرف. ويتضمن شراكة ما بين طرفين بإتفاق على شروط معينه توضع في العقد وأي إخلال في أحد أو معظم أو كل الشروط يبطل العقد ويحق للطرف المتضرر التحلل منه (فسخ العقد) لأن العقد شريعة المتعاقدين ولا يستلزم أي من الطرفين التلفظ بكلمة طلاق لأنه عقد وليس ميثاق.

بعبارة أخرى إن ما يحدث في مجتمعاتنا هو ارتباط على طريقة العقد وانفصال بالطلاق على طريقة الميثاق وهذا خلط غير صحيح ولا يدعمه القرآن الكريم.

ختامًا.. أعتقد أن مزيدًا من التأمل في الآيات المتعلقة بالزواج من قبل المشرعين والفقهاء قد تصل بنا لإيجاد الكثير من الحلول للمشكلات التي تعاني منها مؤسسة الزواج بشكلها الحالي. كما يمكننا مراجعة تشريعاتنا وأنظمتنا في ضوء قراءة واعية لتاريخ الزواج الذي يعد أقدم مشروع بنائي بشري جمع ما بين قطبي هذه الحياة فكان سببًا في استمرار الوجود الإنساني على هذه الأرض.