أيّ عِلم اجتماع عربيّ نُريد؟ هو عنوان كِتاب عالِم الاجتماع اللّبنانيّ فردريك معتوق، الصادر حديثًا عن «منتدى المعارف» في بيروت، من ضمن سلسلة اجتماعيّات عربيّة (13)، وفيه يُضيف مؤلِّفُهُ لَبِنة جديدة إلى عمارته السوسيولوجيّة الفاحِصة والشارحة والمُحلِّلة للنسق المعرفيّ والذهنيّ العربيّ ومُحرِّكاته وتبعاته على الاجتماع العربيّ، وذلك في سياقٍ سوسيو- معرفيّ يَطمح من خلاله إلى نموذج إرشاديّ عربيّ جديد يضْطلع علماءُ الاجتماع العرب ببنائه.
إذا كان عُلماءُ الاجتماع الغربيّون (أوغست كونت، إميل دوركهايم، شارل بوث، ماكس فيبر، بارسونز تالكوت وغيرهم) قد أثروا الأنموذج الإرشادي التأسيسي لعصر الحداثة، فلأنّ مجتمعاتهم ارتكزتْ، منذ منتصف القرن الثامن عشر، على العقلانيّة والاختبار، في حين سادت في المُجتمعات العربيّة «العلوم النقليّة» والمعارف والسلوكيّات المنقولة عن الأسلاف. إنّها إحدى الأفكار الرئيسة لكتاب د. فردريك معتوق التي دَعَمَها بالأمثلة والشواهد من الشرق والغرب، ومن أزمنة ابن خلدون (1332 - 1406) ومونتسكيو (1689 - 1755) إلى زمن نقولا الحدّاد (1878 - 1954) وطه حسين (1889 - 1973). التصوّرات المتخيَّلة تتقاطَع هذه الشواهد والأمثلة التي أَوردها المؤلِّفُ من دون أن يُضيِّع بوصلة الكِتاب، وموضوعه عِلم الاجتماع، لتبيان كيف أنّه بسبب الموقع التَّبعي للمُجتمعات العربيّة سادَ في البنية الثقافيّة العربيّة تيّاران معرفيَّان وفكريَّان استأثَرا بالنظرة والموقف تجاه التراث، أحدهما يُمجِّده والثاني يَستعلي عليه، ولا يزالان، بالتالي، يتحكّمان بوضعيّة عِلم الاجتماع في العالَم العربي.
طه حسين، في رسالته لنَيْل الدكتوراه في جامعة السوربون الفرنسيّة في العام 1917، والتي جاءت بعنوان: «دراسة ونقْد فلسفة ابن خلدون الاجتماعيّة» زاوَجَ، بحسب معتوق، بين نِتاج ابن خلدون وبين شخصه، وذلك بحسب التقليد المعمول به في وسطه الأدبي المحافِظ بشدّة وغير المُساوِم على الأخلاقيّات، واعتبره «فيلسوفًا اجتماعيًّا» لم «يسبغ على فلسفته لغة خاصّة به» بل لغة الفقهاء والنحويّين وعُلماء المنطق (ص56)، نازعًا بذلك عن ابن خلدون صفته كعالِم اجتماع، ومُنكرًا عِلم العمران البشري الخلدوني كعِلمٍ خاصّ ومستقلّ ومُتكامل البنيان النظري، والسبب أنّ طه حسين لم يقرأ ابن خلدون من باب تقنيّة سوسيولوجيّة كان من شأنها أن تُبيِّن أنّ «الكلمات المفاتيح في المقدّمة لم تكُن من جوهر فلسفي، بل إنّها جاءت كلُّها بمضمونٍ سوسيولوجي، حيث تطغى مفاهيم العصبيّة والغُلب والعمران [...] واستخفافه بالجانب النظري من عِلم العمران البشري» (ص61). وكأنّنا بطه حسين، وبسبب مَداره التخصّصي (الأدب) من جهة، وانبهاره بالغرب من جهة ثانية، انبهارًا طبعَ جلّ كتّاب النهضة وأدبائها، فارضًا معاييره وذائقته الأدبيّة والفلسفيّة، وكأنّنا به أمام أنموذجٍ عن النظرة الدونيّة، إذا ما جاز التعبير، للتراث.
أمّا إدراج نقولا الحدّاد كمثال، وهو صاحب أوّل كتاب في عِلم الاجتماع باللّغة العربيّة صدر في العام 1924 بعنوان «كِتاب عِلم الاجتماع»، فجاء كشاهد على التسرُّع في نقْل العلوم الغربيّة الحديثة. فيستند معتوق إلى تعريف الحدّاد لعِلم الاجتماع في كتابه المذكور: «إنّه موضوع مُترامي الأطراف، مُشتبك المظاهر، مُعقَّد البواطن» (ص64) للقول إنّ هذا التعريف هو «تعريف أدبي عامّ وذاتيّ، لا يُدخله إلى فضاء التفكير العلمي، بل يُبقيه تحت قبَّة ثقافته الأدبيّة التي نتربّى عليها جميعًا في كنف المُجتمعات والجماعات التقليديّة. [...] لا يَدخل الحدّاد إلى عِلم الاجتماع من حقلهِ الخاصّ، ولا من المعرفة السوسيولوجيّة، فيبقى هو، ويُبقي القارئَ معه، في فضاءٍ لا وضوحَ فيه، تسوده التصوّرات المتخيَّلة والأحكام المُسبقة. وهذا ما يضعه خارج دائرة العِلم الذي يهدف إلى التعريف به بلغة الضادّ» (ص65).
التمييز بين الظاهر والباطن
إنّها دعوة لاتّباع المنهج السوسيولوجي العلمي في قراءة التراث، والتي كان معتوق قد خصَّص لها كتابًا بعنوان «مدخل إلى سوسيولوجيا التراث» (2006)، بحيث يكون علم الاجتماع قادرًا على الإسهام في تحرير التراث من جموده ووصْله بحياتنا المعاصرة، وذلك باعتماد أربع خطوات هي: التعامل مع كنوز التراث على أساس أنّها جزء من الحاضر، نزْع القدسيّة عن أعمال التراث، وإخضاع هذه الأعمال للفحص والتحليل والمقارنة، واعتماد ما يُمكن من التقنيّات العلميّة الحديثة في هذه العمليّة؛ إذ، وبحسب مقولة المفكّر اللّبناني الراحل د. حسين مروّة، «ليس هناك علاقة واحدة بين الحاضر والتراث، ما دام الحاضر نفسه ليس واحدًا، وما دام التراث كذلك، من منظورات الحاضر، ليس واحدًا» (النّزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، ص23). خصَّص معتوق في كتابه الحاليّ مساحةً كبيرةً لتبيان انتماء ابن خلدون إلى الحقل السوسيولوجي، بالاستناد إلى المعايير الإبيستمولوجيّة التي وَضَعها عالِمُ الاجتماع الفرنسي بيار بورديو في كتابه «مِهنة عالَم الاجتماع»
(1. تخطّي وَهْم المعرفة المباشرة/ 2. تخطّي وَهْم الشفافيّة/ 3. النَّظر في نسقِ العلاقات/ 4. تجنُّب الوقوع في فخّ سُلُطات اللّغة/ 5. تخطّي إغراء التنبّؤات/ 6. مُحاذرة التقاليد النظريّة/ 7. التمييز بين المعرفة السوسيولوجيّة ونظريّة النَّسق الاجتماعي)، وبناءً على هذه المعايير بيَّن توافُرها في مقدّمة ابن خلدون، ما عدا النقطة الثالثة لكونه، والكلام لمعتوق، «عالِم اجتماع الجماعات» (ص37) وهو أمر طبيعي في مُجتمع تقليدي كالمجتمع القبليّ في عصر ابن خلدون والمُجتمع الصناعي ومُجتمع الطبقات الاجتماعيّة في عصر بورديو.
وحين قارَب معتوق مدى تحقيق ابن خلدون، في مُعالجته أطوار المُلك الخمسة، أهدافَ التقرير العِلميّ الذي يُطلَب اليوم من الباحثين الميدانيّين في حقل عِلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعِلم النَّفس الاجتماعي الحديث تحقيقُهُ، بناءً على نقاطٍ أربع أساسيّة هي:
1. الكشف في عُمق الموضوع المدروس، غير الظاهر للعيان/ 2. إظهار السلوك الذي يُرافقه بتشعّباته المُختلفة/ 3. تحديد المنظور الأبعد للموضوع المدروس/ 4. تبيان نمط الديناميّة الاجتماعيّة التي يندرج فيها الأمر برمّته (ص116)، أراد َ - أي معتوق - أن يُظهِرَ تأسيسَ ابن خلدون منهجًا عِلميًّا متميّزًا عن المناهج المتَّبعة قبله، جَعَلهُ يلتقي، ومن دون أن يتماثل، مع المسارات التي اختبرتْها مناهجُ علم الاجتماع في عصرنا الرّاهن. ومن ذلك، السؤال حول «المصدر» في التاريخ، والذي قادَ ابن خلدون إلى البحث عنه، ليس في الخبر نفسه أو في «الوثيقة» التاريخيّة، بل في قوانين العمران، بمعطياته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والديمغرافيّة والدينيّة والنفسيّة، التي تُحتّم على الباحث امتلاكَ نظرةٍ شموليّة للعالم تمكّنه من استكمال الجوانب المعرفيّة المُحيطة بظاهرةٍ معيّنة من خلال الاستعانة بمعارف أو بعلوم أخرى.
إنّها هذه الثورة المعرفيّة التي أسَّست لعِلم العمران، عبر التمييز بين الظاهر والباطن، وبما يستدعي «التعليل» و«العلم بكيفيّات الوقائع» و«أسبابها العميقة»، أي إخضاع المعرفة الاجتماعيّة والتاريخيّة لمنطق السببيّة الاجتماعيّة، غير «الميكانيكيّة» أو «الحَدَثيّة» التي «يتحدّد فيها الحدثُ السابق كسبب، واللّاحقُ كأثر، لمجرّد كون الأوّل سابقًا على الثاني، في تسلسلِ التتابُع بينهما، من غير أن يكون بين الاثنَينْ أيّ ضرورة في وجود ترابُطٍ بينهما» (مهدي عامل، في علميّة الفكر الخلدونيّ، 1985، ص21). إنّها هذه الثورة المعرفيّة التي شكَّلت مُرتكَزَ فردريك معتوق في تتبُّع حداثة ابن خلدون المتمثِّلة في صَوْغِ إشكاليّاته وأسئلته من واقع زمنه وراهنيّته، وكذلك في استخدام تقنيّاته المُستخدَمة في حقل البحث الاجتماعي (الملاحظة السوسيولوجيّة والملاحظة المُشارِكة بلغة السوسيولوجيا اليوم).
أيّ عِلم اجتماع عربيّ نُريد؟
وبالتالي، فإنَّ السؤال المركزي: أيّ عِلم اجتماع عربيّ نُريد؟، موضوع الكِتاب، ليس، من وجهة نظرنا، سؤالًا يُراد به، ومن خلاله، تغليب المحلّي العربيّ على العالَمي، بدليل أنّ قراءة ابن خلدون (كتراث) جاءت من صلب الحقل الإبستيمولوجي الغربي نفسه، ولا سيّما أنّ عِلم الاجتماع، شأنه شأن سائر العلوم الاجتماعيّة، نَشأ وتمدَّد وتعولَمَ وطاوَلَ عوالِمَ غير تلك التي نَشأ فيها، مُتجاوزًا بذلك حدوده الأصليّة.
وكأنّنا بمعتوق أمام السؤال المحوري الذي لا يزال يُواجِه علم الاجتماع في عالمنا العربي، وهو الكيفيّة التي تتيح لهذا العِلم إيجاد نسقٍ أو أنساق نظريّة لفهم واقعه الاجتماعي بموضوعيّة، ولا سيّما أنّ علميّة هذا العِلم الاجتماعي لا تتطابق معاييرها مع معايير العلوم الطبيعيّة، لأنّ هدفها ليس اكتشاف قوانين وحقائق ثابتة، وإنّما الوصول إلى احتمالات قد تقترب من الحقيقة أو الحقائق الاجتماعيّة والتاريخيّة. وهي دعوة تكتسي أهميّة كبرى في زمننا العَولميّ الرّاهن، الذي تشتدّ فيه نزعةُ الانتقال من العلوم الاجتماعيّة الوطنيّة أو المحلية إلى علوم اجتماعيّة عولميّة، وبالتالي تغييب التمايزات المحلية، ومقاوَمة الفاعلين الاجتماعيّين من داخل أطرهم المحلّية لتأثيرات العَولمة؛ وهو واقع يستدعي الوعي بهذا الزمن العَولَميّ للعلوم الاجتماعيّة وإدراك تمفصلاته، حيث يضْطلع عِلم الاجتماع بدَورٍ محوريّ في هذا السياق، سواء لجهة التفكير بأشكال إعادة صَوْغ إشكاليّاته ومفاهيمه وفرضيّاته، أم لجهة إعادة تقويم وتقييم التقليد العِلمي القائم. فمُهمّة عالِم الاجتماع تكمن، بحسب معتوق، في أن «يَستبصِر الحقيقة الموضوعيّة لطبيعة الظاهرات الاجتماعيّة التي تُحيط بمُجتمعه، باحثًا عن منطقها الداخلي، ومُحاولًا تفسيرها في ضوء الأنموذج الإرشادي الذي تنتمي إليه موضوعيًّا، لا في ضوء مفاهيم ونظريّات منقولة عن عِلمٍ نَبَتَ وتَمأْسَسَ وتكوَّن في قلْبِ أنموذجٍ إرشاديٍّ مُختلفٍ ومُغايِر» (ص177).
لعلّ هذه القراءة السوسيولوجيّة، التي شملت كذلك قراءته للتراث، هي التي سمحت لفردريك معتوق بالاشتغال على مفهوم العصبيّة الخلدوني، كقوّة مُحرّكة للأحداث والتاريخ لا تزال فاعلة في مُجتمعاتنا التقليديّة، حتّى ولو أنّها فقدت بُعدَها القبليّ أو البدويّ؛ إذ إنّ هذه العصبيّة لا تزال، من منظوره السوسيو - معرفي، تُشكِّل نقطةَ تواصلٍ والتقاء بين البنية المعرفيّة للقرن الرّابع عشر الميلادي وتلك القائمة اليوم، لأنّها منظومة فكريّة حيّة ومتحرّكة تتلوَّن وتتغيَّر وتتكيَّف في بيئتها العربيّة الحاضِنة، لا مجرّد حالة تاريخيّة مضى عليها الزمن.
*مؤسّسة الفكر العربي
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية
إذا كان عُلماءُ الاجتماع الغربيّون (أوغست كونت، إميل دوركهايم، شارل بوث، ماكس فيبر، بارسونز تالكوت وغيرهم) قد أثروا الأنموذج الإرشادي التأسيسي لعصر الحداثة، فلأنّ مجتمعاتهم ارتكزتْ، منذ منتصف القرن الثامن عشر، على العقلانيّة والاختبار، في حين سادت في المُجتمعات العربيّة «العلوم النقليّة» والمعارف والسلوكيّات المنقولة عن الأسلاف. إنّها إحدى الأفكار الرئيسة لكتاب د. فردريك معتوق التي دَعَمَها بالأمثلة والشواهد من الشرق والغرب، ومن أزمنة ابن خلدون (1332 - 1406) ومونتسكيو (1689 - 1755) إلى زمن نقولا الحدّاد (1878 - 1954) وطه حسين (1889 - 1973). التصوّرات المتخيَّلة تتقاطَع هذه الشواهد والأمثلة التي أَوردها المؤلِّفُ من دون أن يُضيِّع بوصلة الكِتاب، وموضوعه عِلم الاجتماع، لتبيان كيف أنّه بسبب الموقع التَّبعي للمُجتمعات العربيّة سادَ في البنية الثقافيّة العربيّة تيّاران معرفيَّان وفكريَّان استأثَرا بالنظرة والموقف تجاه التراث، أحدهما يُمجِّده والثاني يَستعلي عليه، ولا يزالان، بالتالي، يتحكّمان بوضعيّة عِلم الاجتماع في العالَم العربي.
طه حسين، في رسالته لنَيْل الدكتوراه في جامعة السوربون الفرنسيّة في العام 1917، والتي جاءت بعنوان: «دراسة ونقْد فلسفة ابن خلدون الاجتماعيّة» زاوَجَ، بحسب معتوق، بين نِتاج ابن خلدون وبين شخصه، وذلك بحسب التقليد المعمول به في وسطه الأدبي المحافِظ بشدّة وغير المُساوِم على الأخلاقيّات، واعتبره «فيلسوفًا اجتماعيًّا» لم «يسبغ على فلسفته لغة خاصّة به» بل لغة الفقهاء والنحويّين وعُلماء المنطق (ص56)، نازعًا بذلك عن ابن خلدون صفته كعالِم اجتماع، ومُنكرًا عِلم العمران البشري الخلدوني كعِلمٍ خاصّ ومستقلّ ومُتكامل البنيان النظري، والسبب أنّ طه حسين لم يقرأ ابن خلدون من باب تقنيّة سوسيولوجيّة كان من شأنها أن تُبيِّن أنّ «الكلمات المفاتيح في المقدّمة لم تكُن من جوهر فلسفي، بل إنّها جاءت كلُّها بمضمونٍ سوسيولوجي، حيث تطغى مفاهيم العصبيّة والغُلب والعمران [...] واستخفافه بالجانب النظري من عِلم العمران البشري» (ص61). وكأنّنا بطه حسين، وبسبب مَداره التخصّصي (الأدب) من جهة، وانبهاره بالغرب من جهة ثانية، انبهارًا طبعَ جلّ كتّاب النهضة وأدبائها، فارضًا معاييره وذائقته الأدبيّة والفلسفيّة، وكأنّنا به أمام أنموذجٍ عن النظرة الدونيّة، إذا ما جاز التعبير، للتراث.
أمّا إدراج نقولا الحدّاد كمثال، وهو صاحب أوّل كتاب في عِلم الاجتماع باللّغة العربيّة صدر في العام 1924 بعنوان «كِتاب عِلم الاجتماع»، فجاء كشاهد على التسرُّع في نقْل العلوم الغربيّة الحديثة. فيستند معتوق إلى تعريف الحدّاد لعِلم الاجتماع في كتابه المذكور: «إنّه موضوع مُترامي الأطراف، مُشتبك المظاهر، مُعقَّد البواطن» (ص64) للقول إنّ هذا التعريف هو «تعريف أدبي عامّ وذاتيّ، لا يُدخله إلى فضاء التفكير العلمي، بل يُبقيه تحت قبَّة ثقافته الأدبيّة التي نتربّى عليها جميعًا في كنف المُجتمعات والجماعات التقليديّة. [...] لا يَدخل الحدّاد إلى عِلم الاجتماع من حقلهِ الخاصّ، ولا من المعرفة السوسيولوجيّة، فيبقى هو، ويُبقي القارئَ معه، في فضاءٍ لا وضوحَ فيه، تسوده التصوّرات المتخيَّلة والأحكام المُسبقة. وهذا ما يضعه خارج دائرة العِلم الذي يهدف إلى التعريف به بلغة الضادّ» (ص65).
التمييز بين الظاهر والباطن
إنّها دعوة لاتّباع المنهج السوسيولوجي العلمي في قراءة التراث، والتي كان معتوق قد خصَّص لها كتابًا بعنوان «مدخل إلى سوسيولوجيا التراث» (2006)، بحيث يكون علم الاجتماع قادرًا على الإسهام في تحرير التراث من جموده ووصْله بحياتنا المعاصرة، وذلك باعتماد أربع خطوات هي: التعامل مع كنوز التراث على أساس أنّها جزء من الحاضر، نزْع القدسيّة عن أعمال التراث، وإخضاع هذه الأعمال للفحص والتحليل والمقارنة، واعتماد ما يُمكن من التقنيّات العلميّة الحديثة في هذه العمليّة؛ إذ، وبحسب مقولة المفكّر اللّبناني الراحل د. حسين مروّة، «ليس هناك علاقة واحدة بين الحاضر والتراث، ما دام الحاضر نفسه ليس واحدًا، وما دام التراث كذلك، من منظورات الحاضر، ليس واحدًا» (النّزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، ص23). خصَّص معتوق في كتابه الحاليّ مساحةً كبيرةً لتبيان انتماء ابن خلدون إلى الحقل السوسيولوجي، بالاستناد إلى المعايير الإبيستمولوجيّة التي وَضَعها عالِمُ الاجتماع الفرنسي بيار بورديو في كتابه «مِهنة عالَم الاجتماع»
(1. تخطّي وَهْم المعرفة المباشرة/ 2. تخطّي وَهْم الشفافيّة/ 3. النَّظر في نسقِ العلاقات/ 4. تجنُّب الوقوع في فخّ سُلُطات اللّغة/ 5. تخطّي إغراء التنبّؤات/ 6. مُحاذرة التقاليد النظريّة/ 7. التمييز بين المعرفة السوسيولوجيّة ونظريّة النَّسق الاجتماعي)، وبناءً على هذه المعايير بيَّن توافُرها في مقدّمة ابن خلدون، ما عدا النقطة الثالثة لكونه، والكلام لمعتوق، «عالِم اجتماع الجماعات» (ص37) وهو أمر طبيعي في مُجتمع تقليدي كالمجتمع القبليّ في عصر ابن خلدون والمُجتمع الصناعي ومُجتمع الطبقات الاجتماعيّة في عصر بورديو.
وحين قارَب معتوق مدى تحقيق ابن خلدون، في مُعالجته أطوار المُلك الخمسة، أهدافَ التقرير العِلميّ الذي يُطلَب اليوم من الباحثين الميدانيّين في حقل عِلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعِلم النَّفس الاجتماعي الحديث تحقيقُهُ، بناءً على نقاطٍ أربع أساسيّة هي:
1. الكشف في عُمق الموضوع المدروس، غير الظاهر للعيان/ 2. إظهار السلوك الذي يُرافقه بتشعّباته المُختلفة/ 3. تحديد المنظور الأبعد للموضوع المدروس/ 4. تبيان نمط الديناميّة الاجتماعيّة التي يندرج فيها الأمر برمّته (ص116)، أراد َ - أي معتوق - أن يُظهِرَ تأسيسَ ابن خلدون منهجًا عِلميًّا متميّزًا عن المناهج المتَّبعة قبله، جَعَلهُ يلتقي، ومن دون أن يتماثل، مع المسارات التي اختبرتْها مناهجُ علم الاجتماع في عصرنا الرّاهن. ومن ذلك، السؤال حول «المصدر» في التاريخ، والذي قادَ ابن خلدون إلى البحث عنه، ليس في الخبر نفسه أو في «الوثيقة» التاريخيّة، بل في قوانين العمران، بمعطياته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والديمغرافيّة والدينيّة والنفسيّة، التي تُحتّم على الباحث امتلاكَ نظرةٍ شموليّة للعالم تمكّنه من استكمال الجوانب المعرفيّة المُحيطة بظاهرةٍ معيّنة من خلال الاستعانة بمعارف أو بعلوم أخرى.
إنّها هذه الثورة المعرفيّة التي أسَّست لعِلم العمران، عبر التمييز بين الظاهر والباطن، وبما يستدعي «التعليل» و«العلم بكيفيّات الوقائع» و«أسبابها العميقة»، أي إخضاع المعرفة الاجتماعيّة والتاريخيّة لمنطق السببيّة الاجتماعيّة، غير «الميكانيكيّة» أو «الحَدَثيّة» التي «يتحدّد فيها الحدثُ السابق كسبب، واللّاحقُ كأثر، لمجرّد كون الأوّل سابقًا على الثاني، في تسلسلِ التتابُع بينهما، من غير أن يكون بين الاثنَينْ أيّ ضرورة في وجود ترابُطٍ بينهما» (مهدي عامل، في علميّة الفكر الخلدونيّ، 1985، ص21). إنّها هذه الثورة المعرفيّة التي شكَّلت مُرتكَزَ فردريك معتوق في تتبُّع حداثة ابن خلدون المتمثِّلة في صَوْغِ إشكاليّاته وأسئلته من واقع زمنه وراهنيّته، وكذلك في استخدام تقنيّاته المُستخدَمة في حقل البحث الاجتماعي (الملاحظة السوسيولوجيّة والملاحظة المُشارِكة بلغة السوسيولوجيا اليوم).
أيّ عِلم اجتماع عربيّ نُريد؟
وبالتالي، فإنَّ السؤال المركزي: أيّ عِلم اجتماع عربيّ نُريد؟، موضوع الكِتاب، ليس، من وجهة نظرنا، سؤالًا يُراد به، ومن خلاله، تغليب المحلّي العربيّ على العالَمي، بدليل أنّ قراءة ابن خلدون (كتراث) جاءت من صلب الحقل الإبستيمولوجي الغربي نفسه، ولا سيّما أنّ عِلم الاجتماع، شأنه شأن سائر العلوم الاجتماعيّة، نَشأ وتمدَّد وتعولَمَ وطاوَلَ عوالِمَ غير تلك التي نَشأ فيها، مُتجاوزًا بذلك حدوده الأصليّة.
وكأنّنا بمعتوق أمام السؤال المحوري الذي لا يزال يُواجِه علم الاجتماع في عالمنا العربي، وهو الكيفيّة التي تتيح لهذا العِلم إيجاد نسقٍ أو أنساق نظريّة لفهم واقعه الاجتماعي بموضوعيّة، ولا سيّما أنّ علميّة هذا العِلم الاجتماعي لا تتطابق معاييرها مع معايير العلوم الطبيعيّة، لأنّ هدفها ليس اكتشاف قوانين وحقائق ثابتة، وإنّما الوصول إلى احتمالات قد تقترب من الحقيقة أو الحقائق الاجتماعيّة والتاريخيّة. وهي دعوة تكتسي أهميّة كبرى في زمننا العَولميّ الرّاهن، الذي تشتدّ فيه نزعةُ الانتقال من العلوم الاجتماعيّة الوطنيّة أو المحلية إلى علوم اجتماعيّة عولميّة، وبالتالي تغييب التمايزات المحلية، ومقاوَمة الفاعلين الاجتماعيّين من داخل أطرهم المحلّية لتأثيرات العَولمة؛ وهو واقع يستدعي الوعي بهذا الزمن العَولَميّ للعلوم الاجتماعيّة وإدراك تمفصلاته، حيث يضْطلع عِلم الاجتماع بدَورٍ محوريّ في هذا السياق، سواء لجهة التفكير بأشكال إعادة صَوْغ إشكاليّاته ومفاهيمه وفرضيّاته، أم لجهة إعادة تقويم وتقييم التقليد العِلمي القائم. فمُهمّة عالِم الاجتماع تكمن، بحسب معتوق، في أن «يَستبصِر الحقيقة الموضوعيّة لطبيعة الظاهرات الاجتماعيّة التي تُحيط بمُجتمعه، باحثًا عن منطقها الداخلي، ومُحاولًا تفسيرها في ضوء الأنموذج الإرشادي الذي تنتمي إليه موضوعيًّا، لا في ضوء مفاهيم ونظريّات منقولة عن عِلمٍ نَبَتَ وتَمأْسَسَ وتكوَّن في قلْبِ أنموذجٍ إرشاديٍّ مُختلفٍ ومُغايِر» (ص177).
لعلّ هذه القراءة السوسيولوجيّة، التي شملت كذلك قراءته للتراث، هي التي سمحت لفردريك معتوق بالاشتغال على مفهوم العصبيّة الخلدوني، كقوّة مُحرّكة للأحداث والتاريخ لا تزال فاعلة في مُجتمعاتنا التقليديّة، حتّى ولو أنّها فقدت بُعدَها القبليّ أو البدويّ؛ إذ إنّ هذه العصبيّة لا تزال، من منظوره السوسيو - معرفي، تُشكِّل نقطةَ تواصلٍ والتقاء بين البنية المعرفيّة للقرن الرّابع عشر الميلادي وتلك القائمة اليوم، لأنّها منظومة فكريّة حيّة ومتحرّكة تتلوَّن وتتغيَّر وتتكيَّف في بيئتها العربيّة الحاضِنة، لا مجرّد حالة تاريخيّة مضى عليها الزمن.
*مؤسّسة الفكر العربي
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية