حمود بن فلاح العتيبي

لا يمرّ يوم أعظم أثرًا في وجدان الأمة من يوم عرفة، حيث بلغ الخطاب النبوي في حجة الوداع ذروته، فكان إعلانًا خالداً لاكتمال الرسالة، وتأسيسًا لخطاب ديني راشد يستمد هديه من الوحي، ويجمع بين ثوابت العقيدة ومقاصد الشريعة.

في ذلك الموقف العظيم، أرسى النبي محمد ﷺ معالم منهج يحفظ للإنسان ضروراته الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، وجعل من خطبته ميثاقًا خالدًا يضمن كرامة الإنسان، ويوازن بين الحقوق والواجبات، ويؤسس لمجتمع يسوده التعايش والسلام.

وقد بيّن ﷺ أسس التوحيد والعدل والمساواة، وأعلن حرمة الدماء والأموال والأعراض، مؤكدًا على حفظ العقل من الضياع، والدعوة إلى التفكر والتدبر واتباع الحق، بما يعزز قدرة الأمة على العيش بسلام داخلي وخارجي.

وفي مشهد تاريخي مهيب، أعلن النبي ﷺ على صعيد عرفات اكتمال الدين وإتمام النعمة، مبرزًا التوحيد كأصل ثابت، ومؤكدًا أن العدل والمساواة من القيم الراسخة التي لا تتغير باختلاف الأزمنة.

لقد كان هذا الخطاب بمثابة دستور للأمة، جمع بين التشريع والقيم الأخلاقية، وأرسى مبادئ تحكم علاقة الإنسان بخالقه وبغيره، مثل احترام النفس، وكرامة المرأة، ووحدة الأمة، والتعايش في ظل التنوع البشري.

واليوم، وفي ظل تحديات العصر، تتأكد الحاجة لإحياء هذه المبادئ في إطار خطاب ديني متجدد، يراعي الواقع دون التفريط في الثوابت، ويعزز قيم التفاهم والعيش المشترك بين البشر رغم اختلاف أديانهم وثقافاتهم.

أكد النبي ﷺ في خطبته أن الكرامة الإنسانية والعدالة والمساواة يجب أن تسود بين الناس، بصرف النظر عن أصولهم أو ألوانهم، وأن العنصرية والتعصب مرفوضان في الإسلام، وأن العلاقة بين الناس يجب أن تُبنى على السلم والتراحم والتعايش.

كما أرسى الخطاب قواعد تحرّم الاعتداء على النفس والمال والكرامة، وأكد أن هذه الحقوق لا يجوز انتهاكها، مع التأكيد على رد الحقوق لأصحابها، واحترام المرأة والرفق بها، باعتبارها شريكًا في المجتمع لها حقوق مصونة.

وفي ختام خطبته، أوصى النبي ﷺ الأمة بالتمسك بالكتاب والسنة، فهما بمثابة دستور للأمة الإسلامية، ومن يستمسك بهما لا يضل. وكانت هذه الوصية جامعة تمثل منهج حياة يُحتذى به في كل زمان ومكان.

وفي زمن الانقسامات والتحزبات، تبرز الحاجة للعودة إلى هذه المبادئ التي تُعيد بناء الأمة على أسس التوحيد، والرحمة، والوسطية، والعدالة، والتعايش، وهي الأسس التي قامت عليها حضارة الإسلام، وتضمن للأمة أن تعيش بسلام مع نفسها ومع العالم.