عبدالرحمن المرزوقي

لم تعد الهوية عند الجيل الجديد مسألة تنضج بهدوء مع الزمن، بل تحوّلت إلى سؤال يصرخ في الداخل ولا يجد جوابًا، وكأن الإنسان صار يمشي في مرايا مكسورة، كل واحدة تعكس له شكلًا مختلفًا عن الآخر. في زمن وسائل التواصل، لم يعد من السهل أن تقول من أنت، لأنك قبل أن تُعرّف نفسك، تُسأل: كم متابعًا لديك؟ ما صورتك؟ ما حضورك الرقمي؟ وكأن الذات لم تعد تسكن الجسد، بل صارت تسكن في الحساب الإلكتروني.

الهوية كانت يومًا ما تُبنى بالتراكم: العائلة، المكان، اللغة، التجربة، الهزائم الصغيرة والانتصارات الخفية. أما اليوم، فالهوية تُختزل في لقطة، في «وصف» قصير على حساب مواقع التواصل، في رد فعل سريع على منشور معين. لم يعد ثمة وقتٌ للتشكل البطيء، بل أصبح كل شيء قابلًا للمونتاج. الجيل الجديد لا يعيش فقط أزمة هوية، بل أزمة في معنى الهوية ذاتها. من أنا؟ سؤال صار يُطرح في العلن، لكن كثيرين يهربون منه بالتقليد أو بالتجميل أو بالاختفاء خلف الأقنعة.

وسائل التواصل الاجتماعي، رغم ما قدمته من انفتاح، لعبت دورًا قاسيًا في هذه الأزمة. سمحت لنا أن نرى الآخرين أكثر مما نرى أنفسنا. نقضي ساعات بالتحديق في حياة أخرى، حتى بتنا نعيش داخل حياة غيرنا. ومع الوقت، أصبح من الصعب أن نفرّق بين ما نريده فعلًا، وما نظنه مرغوبًا لأنه شائع فقط. وهذا أخطر أشكال الاغتراب: أن تغترب عن ذاتك، وأنت تظن أنك تعيشها.

نعم، الجيل الجديد أكثر وعيًا، أكثر انفتاحًا، لكن في المقابل، أيضًا أكثر تشظيًا. يجرّب كل شيء ليجد نفسه، ثم يضيع في التجريب. يتحرك بين الهويات كما يتحرك بين التطبيقات، لكن لا يثبت طويلًا في مكان. حتى القيم الكبرى التي كانت تُشكّل سابقًا هوية الفرد – الدين، الوطن، الجماعة، الثقافة – أصبحت لدى البعض رموزًا مُستهلكة أو شعارات تُرفع في المناسبات فقط.

لكن الأزمة لا تكمن في الجيل وحده، بل في البنية الثقافية التي تُحاصره. هناك قصور في الخطاب التربوي، لا نموذج يُحتذى به يُقدّم العمق على الشهرة، ولا مساحة حقيقية للحديث عن الذات خارج لغة الإنجاز أو الفشل. نعلّم أبناءنا كيف ينجحون، لكن لا نعلّمهم كيف يكونون. نرسم لهم طريقًا واضحًا نحو الوظيفة، لكن نتركهم وحدهم في طريق الهوية.

من هنا، لا بد من إعادة التفكير في علاقتنا بالهوية كفكرة، وكقيمة، وكسيرورة. لا الهوية شيء نرثه بالكامل، ولا هي شيء نخترعه من العدم. إنها علاقة مستمرة بين الذات والعالم، بين الداخل والخارج، بين الصورة والحقيقة. وكل جيل عليه أن يخوض هذا الصراع، لكن الجيل الجديد يخوضه في ساحة أكثر تعقيدًا: ساحة بلا جدران، وبلا خصوصية، وبلا وقتٍ كافٍ للتأمل.

فهل نعيد الاعتبار للبطء، للتراكم، للصدق؟ أم سنواصل العيش في عرض مستمر من الهويات الجاهزة؟ هذا هو التحدي الحقيقي، لا فقط للجيل الجديد، بل لكل من يسعى لأن يكون ذاته في عالم لا يكفّ عن تغيير شكله.