سفيان البراق

انكبَّ لفيفٌ من النهضويّين العرب على تقريظ جهود المرأة في المجتمع، وبوّؤوها منزلة مائزة، وكرّسوا كتاباتهم للمنافحة عن قضاياها، ولم يتبرّموا من المُناداة بحريّتها واستقلاليّتها؛ وهذا راجعٌ إلى أنّهم قد تفطّنوا إلى المكاسب التي سيحرزها المُجتمع إذا مُنحت المرأة مساحةً رحيبةً ومنبسطةً للنظر في قضايا المجتمع، والإسهام في اجتراح حلول ونظريّات قد تُخلِّصهُ من نوباته الحضاريّة.

ولقد دُشِّن هذا الخطاب، الذي كان واعدًا وعلِّقت عليه كومةٌ من المطامح والأماني، في زمن محمّد عبده، بوسمه أسطع مثالٍ عن الموجة السلفيّة الإصلاحيّة المُتّسمة بالانفتاح، والذي أثّرت فيه قيَمُ عهد التنوير ومقولاته؛ حيث سُئِل، ذات مرّة، عن إمكانيّة تصرُّف المرأة في مالها، بكلّ أريحيّة، وأن تتمتَّع باستقلاليّتها، بمبعدٍ عن أيّ وصاية مُحتملة كيفما كانت، فردَّ بجوابٍ صاعق مضمونه أنّ المرأة يجب أن تكون مالكة حريّة التصرُّف في مالها وحياتها بمعزلٍ عن أيّ تدخُّلٍ اجتماعي «محمّد عبده، في الكتابات الاجتماعيّة، ط1، 1993، ص521»، وهذا الجواب يجب أن نقرأه في سياقه، أي خلال القرن التّاسع عشر، حيث كان المُجتمع المصري، آنذاك قد أنهكه الجهل، ونَخرته الأميّة، ونالَ منه تحكُّم «مؤسّسة الأزهر» التي كانت تنبري إلى مُعاداة مَن يُعاكس رؤاها وقناعاتها.

بَعد عبده سيأتي إصلاحيٌّ آخر سيُنافح عن المرأة وسيؤمِن بقضاياها بلا تأفُّف، على الرّغم من تصرُّم السنين وتبدُّل الأحوال، وهو أحمد لطفي السيّد الذي يوصف بـ«الممثّل الأكمل للوعي السياسي» «عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربيّة المُعاصرة، 1995، ص56»، ويُنعت أيضاً بـ«اللّيبرالي الأصيل» في دنيا العرب «عبد الله العروي، مفهوم الحريّة، 2008، ص66»، ويأتي ذودُه عن المرأة في سياق تقسيمه للحريّة إلى ثلاثة أنواع رئيسة: حريّة طبيعيّة، حريّة سياسيّة، وحريّة القَلم أو اللّسان «أحمد لطفي السيّد، مبادئ في السياسة والأدب والاجتماع، د. ط، ص132-138، وأيضًا: قصّة حياتي، 2013، ص145»؛ التي هي كناية عن حريّة الصحافة، فضلاً عن أنّه فخَّم المرأة في مضمار تقريعه للاستبداد ومناكفته للمحتلّ البريطاني الغاشم وقتذاك، وكان دائم الاعتقاد بأنّ إحراز النّهضة وتحقيق الإصلاح لن يَتِمَّا في واقعٍ يُهمِّشُ المرأة ويبخِّس مجهوداتها.

ولعلّنا لا نغالي في القول إنّ أميَزَ إصلاحيٍّ عربيٍّ مَجَّد المرأة ومَنَحها مكانةً أسمى، مُقارَنةً بسابقيه، هو سلامة موسى «داعية التقنيّة أو التصنيع» «هذا نعتٌ اجترحه له عبد الله العروي في الإيديولوجيا العربيّة المُعاصرة»، ولم يكتفِ بتدبيج مقالاتٍ في الصحف والجرائد مُبرِزًا فيها هموم المرأة وشواغلها، بل تعدّى وأَفرد لها كتيِّبًا عاصفًا كنّاه بعنوان: «المرأةُ ليست لُعبةَ الرَّجُل»، يُحاول فيه الإبانة عن الجور الاجتماعي الذي تتعرَّض له المرأة، والمرأة المصريّة تحديدًا، بوصفها أنموذجًا مصغَّرًا للمرأة العربيّة التي هُضمت حقوقها واغتيلت أحلامها ووُئدت تطلُّعاتها وبِيْدَتْ حريّتها، كما تغيّا، في هذا المؤلَّف التأكيد على أنّ النّهضة العربيّة ستظلّ بعيدة المنال إذا لم تُسهِم فيها المرأة بوصفها كائنًا فعَّالاً وقطعةَ أساس في أيّ مجتمعٍ كيفما كان وأينما كان. الرّاجح أنّ هذه القناعة التي تشكّلت في ذهن سلامة موسى، المُنتسِب إلى الجيل الثاني من روّاد الحركة الإصلاحيّة العربيّة، ولم يفتر عن ترديدها، مردُّها إلى أنّه كان عقلانيًّا ومؤمنًا بأن الحريّة «حقٌّ طبيعي وبديهي»، «مفهوم الحريّة، ص61»، ومتأثّرًا برموز الفكر التنويري «روسّو، فولتير، ديدرو...إلخ» وبكارل ماركس ونظريّاته في الاقتصاد السياسيّ.

لم ينفكّ سلامة موسى عن الاعتقاد بأن الثورة الحقيقيّة هي التي ترفع مِقدار الحريّة، وترنو إلى إلغاء القيود السابقة، والاعتراف بحقوقٍ جديدة غير مألوفة، وهنا ينكشف انبهاره بالثورات الأوروبيّة وإعجابه بعقابيلها «سلامة موسى، الثورات، 2015، ص11»؛ إذ إنّ النهضة، منذ القرن السادس عشر، بأوروبا، قامتْ على الفكّ مع القديم والمألوف، والانفتاح على قيَمٍ ومقولاتٍ جديدة لم يتعرَّف إليها الأوروبي من ذي قَبل. يتشبَّث سلامة موسى، في دعوته إلى الثورة، بفكرة الانفجار؛ ومعناها هو الانفجار في وجه القديم، الكاسد، التقليدي، وكلّ ما لفَّهُ البوار، وقد يُفرمِل مسيرة العرب في التقدُّم ويؤخّرهم، ومن هنا ستنبَجسُ عنده فكرة الغور في هموم المرأة وتعرية الأعطاب الاجتماعيّة التي تلاحقها، وفضْح الإعضالات التي ابتلعتْ تحرُّرَها واستقلالها.

المرأة حتّى لا تكون عبئًا

إنَّ الإصلاح، في عَيْنِه، لا يمكن أن يتحقّق بمعزلٍ عن المرأة؛ فالمرأة، التي ما انفكّ ينعتُها من باب التبجيل بـ«أخت قلبي» «المرأة ليست لعبة الرجل، 2012، ص22»، إذا كانت مستقلّة، حرّة، واعية، متعقِّلة، منخرطة في سوق الشغل، قادرة على المُبادرة والتصرُّف، فإنّها ستُسهم في تبلْور هذا الإصلاح بشكلٍ سريع، فهي جزءٌ لا يتجزأ من هذه الرؤية الإصلاحيّة.

من هذا المُنطلق سيشرع سلامة موسى، المفتون بالاشتراكيّة، في إذاعة فكرة المُساواة، التي يَضمنها الاتّجاه الاشتراكي ويصونها من أي تهديدٍ مُحتمل، بين المرأة والرجل، باعتبار المرأة كائنًا إنسانيًّا لا يقلُّ أهميّةً وشأوًا عن الرجل، لذلك رَفَضَ أن تكون خادمةً للرجل تحت أيّ ظرْفٍ كان، وقد زكّى المرأة بأنّها تحمل كتلةً من السِّمات وحفنةً من الخواصّ الفريدة والنَّبيلة التي ترفع من قَدْرِهَا وتضعها في مصاف الرَّجل من قَبيل: الشَّجاعة، الإخلاص، الذكاء، السّخاء، الاكتشاف، الاختراع، نستحضر هنا عبارةً تختزلُ مدى تمجيده للمرأة: «البيت أصغر من أنْ يستوعبَ كلّ إنسانيّتك، وكلّ عقلك، وكلّ قلبك، لأنّ الدُّنيا الواسعة هي بيتكِ الأوّل» «المرأة ليست لعبةَ الرجل، ص11».

لقد دعا إلى تمتُّع المرأة بصناعةٍ أو حِرفةٍ قَبل زواجها حتّى لا تكون عبئًا وعالةً على زوجها، وتنتظر إعانةً ماديّة منه؛ فالصناعة، في تقديره، هي التي تَحفظ كرامة المرأة المصريّة والعربيّة. كما دعا إلى إنهاء عهد فصْل المرأة عن المُجتمع المصري الذكوري، لأنّ في هذا النبذِ والإبعادِ تعطيلاً لقدراتها الذهنيّة والبدنيّة؛ وهذا سيُفضي، بلا شكّ، إلى عدم إسهامها في المُجتمع: فكريًا، وتعليميًا، علاوةً على عدم تدخُّلها في دواليب السياسة والاقتصاد؛ إذ إنّ المرأة، في عيْنه، كلما اتّصلت بالمُجتمع، كانت أكثر ذكاءً وثراءً وإنتاجًا. ميَّز سلامة موسى، في هذا المضمار، بين نوعَيْن من النساء: المرأة المُخدَّرة التي تلزمُ البيت وتتبرَّجُ لزوجها، وتكون بذلك انفراديّة وحاملة للمساوئ جميعها وذهنها مليءٌ بالمحظورات والمحرجات، وبين المرأة المُنتِجة-العاملة التي تحمل في نفسها جميع الفضائل الاجتماعيّة، وأوّلُها حريّة التفكير وحريّة التجربة وحبّ الخير العامّ «يُنظر: المرأة ليست لعبةَ الرجل، ص14».

إنّ الاحتقار والإهانة اللّذَيْن طالا المرأة العربيّة عائدٌ أساسًا، في عَيْن التكنوقراطي الألمع في الثقافة العربيّة المُعاصِرة، إلى ذيوع «ثقافة» امتلاك المحظيّات والقيْنات والوصيفات «يُنظر: المرأة ليست لعبة الرجل، ص24»، وهو ما ولَّد لدى الرجل العربي اعتقادًا راسخًا، مضمونه أنّ المرأة كائنٌ سَهل المنال، ومن اليُسر الاستحواذ عليه والتحكُّم فيه وجعْله مُنقادًا وخانِعًا في كلّ الأحوال والظروف، وهذه الثقافة التي تفشّت في الأزمان المُنقضية فإنّها لم تنتفِ إطلاقًا؛ إذ إنّها مازالت حاضرة في شكلٍ جديد على الرّغم من تغيُّب أسواق الرقّ والنخاسة؛ إلّا أنّ ذهنيّة الرجل العربي- الشرقي عمومًا ما زالت تحتفظ بالقناعة نفسها؛ حيث إنّه، ومع وجود من صَنعوا الاستثناء، لم يتخلّ عن نظرته إلى المرأة بحسبانها جسدًا يسلب لبَّهُ وعقلَهُ لا ككائن إنساني مستقلّ، في غاية التعقُّل والاستقلال، وهذا ما قوّى من استفحال عقليّة الحطّ من قدْر المرأة وجدارتها في تقلُّد مهامٍّ جسيمة تُسهِم، من خلالها، في رقيّ المُجتمع ونهضته.

المرأة والانبعاث الحضاري

ومجمل القول: إن المشروع الإصلاحي لسلامة موسى ظلَّ منكبّاً كلّ الإنكباب على إبانة جدارة المرأة في إمكانيّة إحراز الانبعاث الحضاري، ومن ثمّة استخلصَ أنّ النّهضة ستظلّ مرجوّةً ومُرتقَبةً إذا غُيِّبت جهود المرأة، وظلّت في الهامش؛ ومن هنا استشفَّ أنّ التأخُّرَ قد تمخَّض عن إقصاء المرأة وابتلاع حريّتها وكرامتها إلى جانب غياب ثقافة التصنيع عن العقليّة الجماعيّة.

ولعلّ ما يُزكِّي هذا الزَّعم هو أنّ تقدُّم الحضارة الغربيّة في تقديره، نابعٌ من امتلاكها مقاليد التصنيع، ومن ثمّة صارت قوّةً ماديّة أصلها العمل الموجَّه، أي العمل الهادف والمؤثِّر، فضلاً عن احتكارها نواميس العِلم التطبيقي «الإيديولوجيا العربيّة المُعاصرة، ص47-54».

من هذا المُنطلق غدا سلامة موسى متشبّثًا بقناعةٍ مدارها أنّ تأخُّر العرب التاريخي لا صلة له بالدّين والعقيدة، بل إنّ السبب هو عدم الانكباب على التصنيع، ويؤكّد في هذا المضمار أنّ اليابان كدولةٍ صناعيّة تعيش تألُّقًا حضاريًّا يُعَدّ شعبُها من أكثر الشُّعوب مَيْلاً إلى الدّين والرّوحانيّات، ومع ذلك فإنّهم قد أحرزوا تقدُّمًا مُبهرًا، والراجح أنّ سبب تقدّمهم، في تقديره، هو أنّهم عادوا إلى الحضارة الغربيّة ومتحوا منها وأخذوا عنها قواعد وأُسسَ العِلم الحديث ليوظّفوها في التصنيع «الإيديولوجيا العربيّة المُعاصرة، ص47».

إنّ أسَّ التصنيع هو العِلم الحديث، وهذا العِلم لم يكُن ليَنشأ من دون تشكُّل منظومة اللّيبراليّة، خلال القرنَيْن السابع عشر والثامن عشر، التي أنهت عهد الإقطاع، واغتالت الفكر الغَيبي، وفكَّت الوصال مع الذهنيّة الاستهلاكيّة، وجعلَتِ العبوديّةَ مُنتهيةً، فاتحةً الباب أمام زمنٍ جديد عنوانه الحريّة، كمذهبٍ يُعتنق لا بوسمها شعارًا ترفعه الحناجر فقط «عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، 2002، ص149».

يُمكن للمتلقّي أن يَستقطر، بسهولةٍ بالغة، من كتابات سلامة موسى أنّه بجَّلَ العِلم والتصنيع وبخَّس إسهام الأدباء في قيادة الثورات والانتفاضات الشعبيّة؛ حيث أقرّ بأنّ النّهضة بأوروبا لم يَقُدْهَا الأدباء بل تزعَّمها العُلماء «المنتسبون إلى العِلم الحديث»، لأنّ الأديب، عادةً، يكون متعلِّقًا بالتاريخ ومهمومًا بالموروث، يُعظِّمُ الكُتب، يُفكِّرُ في الماضي ويجترُّ نظريّاته، ويسعى إلى الوصول إلى حقائق ذاتيّة: مهووس بالوعْظ والنَّظَر إلى الماضي.

أمّا العالِم فإنّه يشكّ في النظريّات القديمة ولا يبالي بالتاريخ أو الكُتُب، وهو لا ينشد الحقائق بقدر ما ينشد فوائدها ليَستخدمَها لأجل مصالح النّاس: الاختراع والاكتشاف «سلامة موسى، ما هي النّهضة؟، 2012، ص37-38-39».

*باحث في الفلسفة من المغرب

* ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونية الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي