​جازان: حسين معشي

​في عالم يتسارع فيه إيقاع التحولات السياسية والاقتصادية، تتسلل قوة هادئة لكنها حاسمة لإعادة تشكيل الخارطة الدينية: إنها الديموغرافيا. تقرير حديث صادر عن مركز «بيو» للأبحاث، استند إلى تحليل أكثر من 2.700 تعداد سكاني ودراسة استقصائية، كشف أن معدلات الخصوبة ليست مجرد أرقام جامدة، بل هي محرك أساسي لنمو أو تراجع المجموعات الدينية. الأرقام تكشف أن المسلمين يتصدرون مشهد النمو، بينما يشهد المسيحيون تراجعاً نسبياً رغم محافظتهم على الصدارة العددية، في حين تكتسب فئة «غير المنتمين دينياً» قوة دفع عبر ظاهرة التحول الديني، مما يغير معادلة التوزيع السكاني الديني على مستوى القارات.

​المسلمون.. ديناميكية الشباب والنمو

​ذكر تقرير «بيو» أن المسلمين سجلوا أعلى معدلات النمو سكاني بين جميع الأديان. بين عامي 2010 و2020 حيث ارتفع عددهم بـ347 مليون نسمة، أي أكثر من مجموع الزيادات لبقية المجموعات الدينية مجتمعة.

هذا الصعود رفع حصتهم من سكان العالم بـ1.8 نقطة مئوية لتصل إلى 25.6%، مما ضيّق الفجوة مع المسيحيين. العامل الحاسم هنا هو التركيبة السكانية الشابة؛ فالمسلمون يمتلكون أصغر متوسط أعمار عالميًا، مما يعني وفرة النساء في سن الإنجاب واستمرار زخم النمو لعقود قادمة.

​المسيحيون.. صدارة تتآكل

على ال​رغم من أن المسيحية لا تزال أكبر ديانة في العالم، فإن التقرير يظهر تراجع حصتها النسبية. فعدد المسيحيين ازداد بـ122 مليون نسمة ليبلغ 2.3 مليار، لكن نسبتهم هبطت بـ1.8 نقطة مئوية إلى 28.8% من سكان العالم. التراجع يرتبط بانخفاض الخصوبة في الدول ذات الأغلبية المسيحية، خصوصاً أوروبا والأمريكيتين، مقابل نمو لافت في أفريقيا جنوب الصحراء، التي تجاوزت أوروبا لتصبح أكبر مركز سكاني للمسيحية. هذا التحول يعكس فجوة واضحة بين حيوية الديموغرافيا الأفريقية وظاهرة العزوف الديني في الغرب.

​تراجع في الغرب

​شهدت الدول الغربية، التي كانت تُعد معاقل للمسيحية، تراجعًا كبيرًا في نسبة المسيحيين من إجمالي سكانها. ففي الولايات المتحدة، انخفضت نسبتهم بـ14 نقطة مئوية بين عامي 2010 و2020، وفي أستراليا، وصل التراجع إلى 20 نقطة مئوية. هذا التغير لا يقتصر على أرقام سكانية فقط، بل يعكس تحولًا عميقًا في الهوية الثقافية والاجتماعية لهذه البلدان، حيث يختار عدد متزايد من الأفراد الابتعاد عن الانتماء الديني التقليدي.

​المركز الجديد للمسيحية

​بفضل معدلات المواليد المرتفعة، تحولت أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى لتصبح المركز الجديد للديانة المسيحية. ففي عام 2020، بلغ عدد المسيحيين في أفريقيا 713 مليون شخص، متجاوزين عدد المسيحيين في أوروبا الذي بلغ 518 مليون شخص. هذا التحول الديموغرافي يؤكد أن مستقبل المسيحية يتشكل الآن بشكل متزايد في القارة الأفريقية، وليس في أوروبا كما كان الحال في السابق.

​اللادينيون نمو بالتحول لا بالمواليد

​الفئة المسماة بـ«غير المنتمين دينياً» حققت بدورها نمواً ملحوظاً، إذ ارتفع عددها بـ270 مليون نسمة لتشكل 24.2% من سكان العالم. وعلى عكس المسلمين، لم يأتِ هذا النمو من الخصوبة – التي تظل منخفضة – بل من ظاهرة التحول الديني، حيث يترك ملايين الأفراد، خصوصاً في أمريكا الشمالية وأوروبا، هوياتهم الدينية التقليدية. هذا التحول عوّض ضعف معدلات المواليد، وأدى إلى صعود هذه الفئة لتصبح الأكثر تأثيراً في إعادة تشكيل المشهد الديني في دول مثل هولندا ونيوزيلندا وأوروجواي.

​الوجه غير الديني

​رصد التقرير، أن بعض الدول أصبحت ذات أغلبية من «غير المنتمين دينيًا»، مثل هولندا ونيوزيلندا، إضافة إلى أوروجواي التي انضمت إلى دول مثل الصين واليابان.

في أوروجواي، على سبيل المثال، ارتفعت نسبة هذه الفئة إلى 52.4% من السكان في عام 2020. هذا النمو يعكس ديناميكية فريدة لا ترتبط بالولادات بل بظاهرة التحول الديني، حيث يختار الأفراد الابتعاد عن هوياتهم الدينية السابقة.

ويُعزى هذا الارتفاع بشكل لافت إلى ظاهرة «التحول الديني» Religious، حيث يترك عديد من الأفراد هوياتهم الدينية، وبشكل خاص المسيحيين، وهو ما يفسر الجزء الأكبر من نمو هذه الفئة. فبينما يمتلك غير المنتمين دينيًا معدلات خصوبة منخفضة ومتوسط أعمار أكبر، إلا أن التحول الديني عوض هذا «العيب الديموغرافي» وأدى إلى نموهم السريع.

​اليهود.. تحول إقليمي

​يشير التقرير إلى تحول جوهري في توزيع اليهود عالميًا، حيث أصبح الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يضمان أكبر عدد من اليهود، متفوقًا على أمريكا الشمالية. هذا التغير يعود بشكل رئيس إلى النمو السكاني في إسرائيل، حيث زاد عدد السكان اليهود من 5.8 مليون إلى 6.8 مليون نسمة بين عامي 2010 و2020، مما يؤثر بشكل مباشر على الإحصائيات العالمية لليهود.

​تحولات جغرافية وملامح المستقبل

​التحولات لا تقتصر على الأرقام بل تمتد إلى الجغرافيا الدينية. التقرير يرصد تراجع المسيحية في نحو 40 دولة غربية، مقابل بروز أفريقيا جنوب الصحراء كمركز جديد للثقل المسيحي. كما يشير إلى انتقال مركز ثقل اليهود من أمريكا الشمالية إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هذه الاتجاهات تعكس ما هو أبعد من الإحصاءات: تغييرات ثقافية واجتماعية ستعيد رسم السياسات العامة، وتؤثر على أنماط التعليم والمجتمعات، بل وربما تشكل التوازنات الدينية العالمية لعقود مقبلة.

نظرة تحليلية

​تؤكد الأرقام التي استعرضها التقرير حقيقة لا يمكن تجاهلها: أن مستقبل الخارطة الدينية العالمية يتشكل الآن بفعل محركات ديموغرافية أكثر من أي عوامل أخرى. إن صعود المسلمين مدفوعاً بخصوبة عالية وقاعدة شبابية، وتراجع المسيحيين النسبي نتيجة انخفاض معدلات المواليد في الغرب، ونمو فئة «غير المنتمين دينياً» بفضل التحول الديني، ليست مجرد اتجاهات عابرة. إنها مؤشرات على تغييرات جذرية ستعيد تعريف الهويات الثقافية والاجتماعية في القارات المختلفة. وبينما يغير هذا التقرير فهمنا للحاضر، فإنه يضع أمامنا تساؤلات حاسمة حول المستقبل: كيف ستتكيف المؤسسات الدينية مع هذه التحولات؟ وما هو شكل الحوار بين الأديان في عالم تتغير فيه التوازنات السكانية بهذه السرعة؟ إنها أسئلة تتطلب إجابات عميقة، وتؤكد أن الديموغرافيا أصبحت، وبلا شك، جزءاً لا يتجزأ من أي نقاش حول مستقبل العالم.

​ديموغرافيا الأديان (2010 – 2020)

​المسلمون: زيادة 347 مليون نسمة وارتفاع الحصة إلى 25.6%

​المسيحيون: زيادة 122 مليون نسمة مع تراجع الحصة إلى 28.8%

​غير المنتمين دينياً: زيادة 270 مليون نسمة وصعود إلى 24.2%

​المسلمون الأصغر سناً عالمياً ما يضمن استمرار النمو.

​التحول الديني هو المحرك الأساسي لصعود «غير المنتمين دينياً»

​أفريقيا جنوب الصحراء تتجاوز أوروبا كمركز مسيحي رئيس

​الولايات المتحدة تشهد انخفاضًا بنسبة 14% في نسبة المسيحيين

​أوروجواي تصبح دولة ذات أغلبية غير دينية بنسبة 52.4%

​اليهود: نمو عددهم بـ 7.3% عالميًا، بدافع من النمو السكاني في إسرائيل