محمد السعد

ما يُدرس اليوم في المناهج العلمية التي تقرر على طلاب المدارس من نظريات واكتشافات علمية بوصفها نتاج العبقرية الفردية هو في واقع الأمر نتيجة تراكم معرفي جماعي أسهمت فيه شعوب وأمم ذات أعراق وثقافات متنوعة. وامتدادا لمقالات سابقة عن فيثاغورس وإقليدس نقدم اليوم نموذجا آخر لوهم العبقرية الفردية، وهو العالم اليوناني أرخميدس مكتشف «قانون الطفو» وكلنا نعرف قصة اكتشافه للقانون وخروجه عاريا من حوض الحمام وهو يصرخ: «يوريكا، يوريكا» يعني: وجدتها. القصة مكذوبة بطبيعة الحال، ويمكن تصنيفها ضمن قصص أساطير العلم الكلاسيكية.

تقدم هذه القصص اليوم بطريقة تنسب الفضل حصريا لعقل فردي عبقري معزول عن المجتمع ويفكر وحيدا في الحمام أو تحت الشجرة، غالبا ما يكون غربيا أو يونانيا، ما يعكس تحيزا معرفيا وثقافيا خطيرا يغذى به طلاب المدارس منذ نعومة أظفارهم. والمناهج التعليمية العربية ما زالت تقدم العلم للطلاب بطريقة تمجد الفرد العبقري وتقصي مساهمات العقل الجماعي لحضارات العالم.

المعرفة ليست في عقل الفرد المنعزل بل موزعة في المجتمع الإنساني وكل منجز علمي هو في الحقيقة تعاون ضمني بين آلاف العقول عبر الزمن، وليست وليدة اللحظة أو وحيا نزل من السماء على العالم اليوناني أو الأوروبي وهو يفكر تحت الشجرة أو يستحم في حوض الحمام. وحين نفهم أن العقل البشري عقل جمعي بطبيعته سندرك أن الجماهير وشعوب العالم ليست قطيعا بل هم أصحاب الوعي الحقيقي ومصدر كل معرفة.

قصة أرخميدس وهو يخرج عاريا من الحمام، أو نيوتن المتأمل تحت شجرة التفاح، تعرض دائما كرمز للاكتشاف المفاجئ وللعبقري المنعزل الذي يتلقى الإلهام فجأة ودون مساعدة من أحد. مثل هذه القصص المتخيلة تهمش إسهامات سائر الشعوب وتخرجها من دائرة التراكم المعرفي البشري. فالمعرفة تراكم جماعي لا تصح نسبتها لفرد واحد بل هي سلسلة طويلة من الجهود الجماعية تمتد لقرون طويلة. المعرفة العلمية بطبيعتها ترفض النخبوية العلمية أو الاحتكار الثقافي للعلم.

قصتا اكتشاف قانوني الطفو والجاذبية، تستخدم بشكل مبالغ وترسخ فكرة الحدوث المفاجئ للمعرفة والاكتشاف بمصادفة عبقرية وتخدم الرواية الرومنسية عن العبقرية الفردية وليس الحقيقة التاريخية للعلم، ومثل هذه القصص المتخيلة تنتشر على نطاق واسع في قصص الأطفال والمناهج التعليمية في مراحل التعليم الأولي، وبلا شك أن الاعتماد على القصص الأسطورية لشرح الاكتشافات العلمية يضلل الطلاب ويفصل الاكتشاف العلمي عن سياقه التاريخي والثقافي، ويقصي شعوبا لا حصر لها عن فضل الإسهام العلمي والمشاركة الفاعلة في تراكم المعرفة.

ليس من المعقول أن تظل مناهجنا التعليمية والتربوية أسيرة سرديات مكرورة تمجد العبقرية الفردية، ومن هنا نقدم دعوة لصانعي القرار في مجال التعليم لتفكيك السرديات البطولية في العلوم وتحرير العلوم من أوهام النخبوية وإعادة النظر في طريقة تقديم العلوم في المدارس بحيث توضح السياقات التاريخية والاجتماعية والثقافية التي نشأت فيها الاكتشافات العلمية وإبراز الدور الفاعل للإنسانية قاطبة بعيدا عن القصص المتخيلة التي تمجد العبقرية الفردية، وتشجيع التعليم الذي يعزز الانتماء والعدالة المعرفية ويجعل الطالب يشعر بأنه جزء لا يتجزأ من سلسلة الاكتشافات العلمية الممتدة منذ قرون طويلة.