أبها: أصايل القحطاني



احتلت السعودية المرتبة الـ32 عالميًا في معدل زيارات طبيب الأسنان بمتوسط 2.79 زيارة سنويًا للفرد الواحد، بحسب إحصاءات مجلة CEOWORLD لعام 2024، لتتفوّق على عدد من الدول المتقدمة في أوروبا وآسيا، وتأتي مباشرة بعد اليابان (2.83).

وتؤكد البيانات أن صحة الفم ليست مجرّد مقياس طبي، بل مؤشر خفي للثروة والرفاه والثقة العامة في الأنظمة الصحية. وتعكس هذه الإحصاءات مدى تفاعل المواطنين حول العالم مع ثقافة الرعاية الوقائية، إذ تكشف عن تفاوت واضح بين الدول في عدد الزيارات السنوية لطبيب الأسنان.

المؤشر الاقتصادي الخفي

تشير البيانات إلى أن فحوص الأسنان الدورية قد تبدو بسيطة، لكنها تُعد مقياسًا فعّالًا لجودة البنية التحتية، ومستوى الدخل، ووعي الأفراد بأسلوب الحياة الصحي. ففي الاقتصادات التي تسبق فيها الوقاية العلاج، تصبح صحة الفم رمزًا صامتًا للكفاءة النظامية، وركيزة غير ظاهرة من ركائز التنافسية الوطنية.

أوروبا تتصدّر المشهد

تتربّع موناكو على قمة الانضباط الصحي العالمي بمعدل 3.4 زيارة سنويًا لطبيب الأسنان، تليها ليختنشتاين (3.39)، ثم النرويج (3.38). وتمكنت هذه الدول الصغيرة والإسكندنافية من الدمج بين النماذج الصحية الشاملة ومستويات الدخل المرتفعة، ما جعل طب الأسنان الوقائي جزءًا من الثقافة اليومية وليس مجرّد واجب طبي.

ففي موناكو، تُعد العناية بالأسنان جزءًا من نمط الحياة الراقي، بينما تمتلك ليختنشتاين شبكة رعاية صحية مترابطة تُركّز على الوقاية قبل التدخل العلاجي. أما النرويج، فقد طوّرت نموذجًا يربط بين التمويل العام والوعي المدني، ما أنتج مجتمعًا أكثر صحة ومسؤولية.

وجاءت سويسرا ولوكسمبورغ رابعة وخامسة. وتعتمد هذه الدول على مزيج من الناتج المحلي المرتفع، والشراكات بين القطاعين العام والخاص، وثقافة مجتمعية تقدّر العافية كقيمة وطنية. سلالة أوروبا الغربية

تثبت أوروبا الغربية مكانتها كمنطقة رائدة في مجال الرعاية الوقائية. فمن النمسا إلى بلجيكا، تُعتبر عمليات تنظيف الأسنان الدورية أمرًا أساسيًا في حياة المواطنين، مدعومة بسياسات تأمين محفزة، وحملات تعليمية وطنية، وأعراف اجتماعية تعزز مبدأ الصيانة الذاتية للصحة.

وتترجم هذه الثقافة إلى وفورات مالية على المدى الطويل، إذ تنفق الدول التي تشهد زيارات منتظمة لأطباء الأسنان مبالغ أقل على العمليات الجراحية الطارئة وعلاج الأمراض المزمنة.

النموذج الإسكندنافي

تجسّد دول الشمال الأوروبي، مثل النرويج والدنمارك والسويد، نموذجًا فريدًا يقوم على أن العناية بالأسنان تبدأ منذ الطفولة. وتربط هذه الدول بين الرعاية الصحية المدعومة من الدولة والثقة الاجتماعية العالية، لترسيخ فكرة أن الصحة حق ومسؤولية في الوقت نفسه.

ويمتد هذا «النهج الإسكندنافي في العافية» إلى ما هو أبعد من الأسنان، ليعكس عقدًا اجتماعيًا يقوم على مشاركة المواطنين في الحفاظ على المصلحة العامة. وتُظهر التجربة أن التعاون بين القطاعين العام والخاص في التوعية الصحية يحقق عوائد ملموسة، بدءًا من انخفاض معدلات الغياب عن العمل وصولًا إلى ارتفاع الإنتاجية.

تحول آسيا السريع

في المقابل، تشهد آسيا تحولًا سريعًا نحو ثقافة العناية الوقائية. وتبرز اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة كمحركات رئيسة لهذه الثورة الصحية، مدفوعة بازدهار المدن الحديثة، وبرامج التوعية الحكومية، والتوسع في التأمين الخاص.

وتُعد اليابان نموذجًا مميزًا في المنطقة، إذ تربط بين الطب الوقائي والدقة الجمالية، ما يجعل سوقها لطب الأسنان انعكاسًا لفلسفتها الاقتصادية القائمة على الاستثمار الطويل الأمد. أما سنغافورة، فقد دمجت صحة الفم ضمن إستراتيجيتها الوطنية للرعاية، لتصبح نموذجًا آسيويًا في الرعاية المستدامة المعتمدة على الوقاية.

الولايات المتحدة

تعكس الولايات المتحدة مفارقة واضحة؛ فعلى الرغم من امتلاكها أعلى معدلات الإنفاق على طب الأسنان في العالم، فإنها لا تأتي ضمن المراتب الأولى في عدد الزيارات. ويرجع ذلك إلى ارتفاع التكاليف، وتجزؤ نظم التأمين، وصعوبة الوصول إلى الخدمات للفئات محدودة الدخل.

ويعتمد النظام الأمريكي على التأمين الخاص، مما يترك ملايين المواطنين دون تغطية كافية، فتتراجع الزيارات الوقائية مقابل ارتفاع العمليات الطارئة، وهو ما يعكس خللًا في كفاءة النظام الصحي على الرغم من تقدّمه التقني.

سد الفجوة الوقائية

تسجّل دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء معدلات منخفضة جدًا في زيارات أطباء الأسنان، بمتوسط أقل من نصف زيارة سنويًا للفرد، وتواجه هذه المناطق تحديات في البنية التحتية، والقدرة على تحمّل التكلفة، ونقص الكوادر الطبية.

وعلى الرغم من ذلك، تظهر مؤشرات إيجابية في دول مثل تشيلي وكوستاريكا التي تستثمر في برامج وقائية للأطفال، مدعومة بشراكات دولية ومبادرات في الصحة الرقمية. كما تشهد القارة الأفريقية توسعًا في مبادرات طب الأسنان المتنقل والاستشارات عن بُعد.

قوة الدولة

تُعد معدلات زيارة طبيب الأسنان مؤشرًا يعكس جوانب متعددة، مثل الدخل المتاح، والموقف الثقافي من الصحة، وسهولة الوصول إلى التأمين، ومستوى الثقة الاجتماعية. وتؤكد هذه المؤشرات أن الدول التي تسجل أعلى نسب زيارات لا تتفوّق صحيًا فحسب، بل أيضًا في تنمية رأس المال البشري وتعزيز الثقة بالنفس والإنتاجية.