محمد بن صقر

محاولة مني لتفكيك حالة قديمة حاضرة في كثير من مراكز الدراسات والأبحاث، أطرح على القارئ الكريم هذا التساؤل، «هل يدفع حرص الجماهير على الانتماء إلى التصديق دون تفكير؟ وهل يتحول الإيمان الجماعي بفكرة أو قضية إلى نوعٍ من العمى العقلي الذي يغني عن الفهم والتحليل؟». السؤال ليس وليد اليوم أو محض صدفة بل طرحه من قبل المفكر الاجتماعي والفيلسوف الأمريكي الملقب بفيلسوف الأرصفة إريك هوفر في كتابه الشهير «The True Believer (المؤمن الصادق)»، الذي ناقش فيه أن الإنسان منذ وجوده وهو يبحث عن معنى ينتمي إليه، وعن جماعة تمنحه شعورًا بالقوة والهوية. لكن هذا الانتماء كثيرًا ما يتحول إلى إيمان أعمى وغير واع للحقيقة التي يهتم بها أو المفترض أن يبحث عنها، مما يجعل الفرد يصدق بلا تفكير، ويهتف بلا وعي، ويتحرك باسم قضية أكثر مما يتحرك باسم ذاته. وهذا ما يحرك الناس باتجاه الحركات الجماهيرية ويتخلون عن عقولهم عند أول صيحة جماعية. هذا الاندفاع كان يترجم قديمًا في الشارع وعبر نقابات وتجمعات. اليوم اختلفت المسألة فنحن نعيش عصر الشاشات الرقمية والتكنولوجيا السريعة وسيل الإشاعات والتضليل التي لا تسمح للعقل بأن يفكر أو أن يأخذ فرصة لتحليل، فهل تغير الإنسان فعلًا، أم إننا نعيد إنتاج الظاهرة نفسها بوسائل جديدة؟

إبعاد الناس عن التفكير- بحسب إريك- يأتي من الإحباط فهو الشرارة الأولى، حيث إن الإنسان لا ينضم إلى حركة جماهيرية لأنه مقتنع بالفكرة، بل لأنه محبط من ذاته وواقعه. فمن يشعر بالعجز أو فقدان القيمة يبحث عن خلاص جماعي يعوض به إحساسه بالضعف. هنا نجد أن الأصوات الفضائية والإعلامية استغلت هذا الإحباط، وتجسدت هذه الفكرة بوضوح في الفضاء الرقمي. فكثير من الناس يجدون في المجموعات الافتراضية والقبائل الفكرية والإعلامية على المنصات الرقمية وسيلة للهروب من الإحباط الشخصي. فالإنسان والجماهير التي تشعر بالتهميش في حياتها، تصبح ضحية سهلة لفكرة أو شخص، ما قد يسمح لها بالانضمام إليه، ويشعرها بأن هناك قضية تستطيع العيش من أجلها، حتى لو كانت وهمية، غير حقيقية، لأن ذلك يمنحها شعورًا بالانتماء والقوة. فالجماهير بحسب هوفر تبحث عن هوية ومجتمعات وتجمعات، لا عن حقيقة. لأنها تمنح أتباعها حياة جديدة، فالفرد لا يرى نفسه كفرد بل كجزء، فهو يستخدم كلمة «نحن» بدلًا من «أنا» ويرى فيها أمرًا عظيمًا يستحق القتال من أجله. وهذا بالضبط ما نراه اليوم في الاستقطاب الرقمي والتحيزات المعرفية دون حقائق، فنجد أن أنصار فكرة أو تيارًا أو شخصية يعيشون داخل فقاعات فكرية مغلقة واهمة، لا يسمعون إلا صدى أصواتهم. حتى على المنصات الاجتماعية، ومع التقنية الجديدة والذكاء الاصطناعي نجد «الخوارزميات» تغذي هذه العزلة الفكرية، عبر اقتراح محتوى يتفق مع قناعات المستخدم، مما يحشد الانتماء العاطفي على حساب التفكير العقلاني والنقدي الذي يحلل الفكرة قبل اتباعها.

أما الأمر الثالث والمستخدم، وهو من أكثر أفكار هوفر «الكراهية»، وهي أكثر ما يوحد الجماهير بعكس الحب، وجين الكراهية يؤكد كاي في التقرير الذي عرض أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة «أن الدول والحكومات أخفقت في منع خطاب الكراهية»، وبين أنه لا يقل ضررًا عن غيره لأنه يدور في عالم افتراضي، بل على العكس من ذلك، فإنه ينتشر بسرعة ويصل إلى أبعد الحدود، ولذا بإمكانه أن يسهم في التحريض، ودائمًا ما يكون الهدف إسكات الغير.

إذن فكرة الكراهية وجدت ضالتها في وسيلة لإشعال الفتنة بين الجماهير، وممكن أن نضيف إلى تقرير كاي، أن ليس فقط الأشخاص المهمشون هم الهدف، وإنما «الآخر» أيًا كان موقعه وأيًا كانت خلفيته، فخطاب الكراهية دائمًا يخاطب ويجيش الاتجاهات الغرائزية لا العقلية، ويحشد الانتماءات الأولية في الجماهير، كالقبلية والطائفية والمذهبية. ففي كل حركة جماهيرية هناك عدو مشترك يستخدم لتوجيه الغضب الجماعي. وفي عصرنا، أصبح هذا العدو رقميا يصنع في التغريدات والمنشورات اليمين ضد اليسار، المحافظ ضد الليبرالي، المواطن ضد الإعلام، والمسؤول ضد المواطن.

وسائل التواصل تتغذى على الغضب، لأن المحتوى الغاضب أكثر جذبًا وتفاعلًا، ولذلك أصبحت الكراهية وسيلة لتوحيد الجماهير وتحريكها، لا لحشدهم نحو الحقيقة. الجانب الرابع في تصديق الجماهير دون تفكير، هو البحث عن الأمل أكثر من الحقيقة، فالجماهير لا تنجذب إلى الأفكار الحقيقية أو المنطقية، بل إلى الوعود الكبرى والمفاهيم الرنانة مثل «الديمقراطية/ العدالة/ الحرية»، فالجماهير في زمن التصديق البعيد عن الحقيقة، يشاركون الأخبار التي تشعرهم بالأمل أو الخوف أكثر من تلك التي تحتوي على حقائق دقيقة. لهذا نرى انتشار «نظريات المؤامرة والسرديات الملهمة الزائفة» في وسائل التواصل الاجتماعي، لأنها تقدم معادلة أبسط للتصديق. فالجماهير تريد أن تؤمن بشيء، لا أن يتحققوا منه، ولكن سرعان ما يصبحوا مسؤولي محتوى يغذي الوسائل، ويحاولون إثبات ما طرح دون تثبت، فتضيع الحقيقة ويكثر اتباع الوهم والمحاولة للانتماء لتصديق الجماهير، والهرب من مسؤولية التفكير والاختيار. أما الانتماء لجماعة فيعني راحة الطاعة والانصهار في القطيع. وفي عالمنا اليوم، كثيرون يختارون الراحة النفسية للانتماء الفكري على عناء التفكير المستقل.

تغيرت الأدوات، لكن تبقى الجماهير نفسها تبحث عن قضية تنتمي لها وتحارب من أجلها وتفكر عنها وتصدقها، مما جعلنا أمام تحد كبير في محاربة الأفكار التي قد تدفع الجماهير غير الواعية إلى الهاوية.