إبراهيم جلال فضلون

«في كل شبر من تراب السودان نبض عربي، وفي كل نبضة عهد على تاريخ الجنوب والشمال» - مقولة تُستحضر اليوم بقوة، أمام ما يعيشه شعب السودان من تشريد ومجاعة وتفتت، راح ضحيتها السودان بويلات الحرب، منذ ذروة الصراع بين التراث المهدوي، والجيش، والقوى الإسلامية، حول شكل وهوية الدولة. ليرزخ الناس وسط دوامة من التناقضات بين التنوع العرقي والديني. وصفهم الضابط البريطاني هنري سيسل جاكسون في كتابه «السودانيون المقاتلون» بأنهم «محاربون بالفطرة، يمتلكون شجاعة طبيعية واستعداد دائم للقتال والولاء».

لقد تشابهت الحرب السودانية والحصار المتكرر في لحظة لا تبعد كثيرًا عن مشهدٍ مأساوي آخر في غزة مما يخلقان موجات متلاحقة من عدم اليقين الاقتصادي في المنطقة. فحين يُجوعُ أطفال غزة بقرار احتلال، تُقتل عائلات، تُدمَّر بيوت، تُنسف حياة، لنعود إلى السؤال ذاته: لماذا يُقتل الإنسان العربي بالذات؟ ولماذا تُهدم إنسانيته؟، ولماذا تُدمر اقتصاداته وبنيته البشرية؟!!، ففي السودان، النزيف الاقتصادي داخلي؛ وفي غزة، الضرر سببه تدمير شامل للبنية التحتية، ما يحرم الإقليم من سوق مهم للسلع والخدمات.

فمنذ بداية الحرب السودانية، سعى طرفا الصراع للسيطرة على مناجم الذهب ، ومنها مناجم ذهب دارفور. ويضم الإقليم أكبر مواقع لتعدين الذهب في السودان-، وكذلك خريطة الثروات الهائلة هي ما تجعل لعاب الكثيرين تسيل نحو الإقليم ، ما يعمّق الأزمة الإنسانية ويعقّد جهود السلام.

وهو ما سعت إليه الماسونية اليهودية في غزة لتنفيذ أجندتها . أما أوجه الشبه: (حصار، جوع، موت، ونزوح)، وكأن الحصار صُنِّع ليقتل الأمل، فكلا الجرحين يربكان الشركات والأسواق، ويزيدان من فاتورة المخاطر الاستثمارية في الشرق الأوسط، ففي غزة: حصار خارجي خانق، ودمار يطال المدنيين. وفي السودان: حرب أهلية، تقتل أبناء الوطن بأيدي بعضهم البعض.. والنتيجة واحدة: (أطفال بلا غذاء، أمهات بلا مأوى، مدن بلا حياة، ومستقبل مهدور).

لكن الفارق: فارق وجيه: الاحتلال الخارجي مقابل الإبادة الداخلية، ففي غزة، يجري هذا تحت احتلال عسكري خارجي، مدعوم بنفقات ضخمة وعدّة احتلال. أما في السودان - فالمجزرة بأيدي سودانيين. كما حُوصرت (الفاشر) مدة 18 شهرًا، ومُنع الوصول إلى الغذاء والدواء، تعرضت غزة لحصارٍ قصم ظهر أهلها - حاصر المدنيين، منع وصول المساعدات، وركّع السكان بالجوع والخوف، هذا يجعل السؤال أكثر مرارة: كيف نسمح أن يُقتل الإنسان العربي على يد أخيه العربي؟، لنرى «سودانٌ يتألم» ، وهو فارق لا يقلل من مأساة غزة، لكنه يصيب بعمق حين يُدرك المرء أن أخباره تُثير صمتاً، أو غفلة، أو حسابات سياسية ضيقة.

أما التداعيات المشتركة: إنسانٌ يحيا بين الجوع والموت، تشريد، فقدان للمستقبل، أطفال بلا مدارس، أسر بلا مأوى، اقتصادات منهارة، وأمن شبه معدوم. هذا ليس فقط مأساة محلية، بل تهديد للاستقرار العربي ككل، فإذا انهار السودان اقتصاديًا إنهار سوق الغذاء، وسلاسل التصدير والاستيراد، ويتوقف الاستثمار، وتتُجمَّد العلاقات الاقتصادية، أما إذا انهارت غزة، ركع الإقليم تحت وطأة أزمة إنسانية، وقد يُسحب من قوس التاريخ كقضية أولى في الذاكرة، فالسودان لا يحتمل تكرار تجارب المفاوضات والاتفاقات التي تعيد إنتاج الميليشيات المسلحة من خلال الحلول المنقوصة، وأسلوب المكافآت بالمناصب والمكاسب. هذه السياسة فشلت تمامًا ويدفع السودان الآن أفدح الأثمان نتيجتها.

دعوة عربية واحدة: لّمّ شمل القلب قبل رسم الخرائط، فعلى العرب اليوم التفكير ليس فقط في ترسيم الحدود السياسية، بل في ترسيم حدود الضمير. لأن الضمير العربي - إن مات- مات الوطن ككل، إذًا علينا أن نتعامل مع السودان وغزة كنداء أخير للبشرية، لا كقضيتين أخريتين تمران في خبر عاجل ثم تُنسى.

فالحاجة إلى ضمير عربي موحّد ليس شعارًا يُرفع، بل مسؤولية تُلقى على كل قلب عربي حي، والدعوة اليوم ليست سياسية فقط، بل أخلاقية، (حماية المدنيين، فتح الممرات الإنسانية، وتقديم الإنسان على الخرائط والمصالح).