قام الخيال بالمهمة المودعة إليه أبدع قيام؛ فأوحى إلى الإنسان أن يتألف أنواعا من هذا الحيوان ويتخذها مراكب وأوحى إليه أن يتخذ من جذوع الأشجار سفنا يمخر بها عباب البحار؛ وسفنا مثلها يجتاز بها الصحاري والقفار. ولم تقف شهوة الخيال عند كل هذا فحسب. وكيف تقف وقد شاهد أسراب الطيور؛ تطير بأجنحتها في الهواء، مختالة على الإنسان باستطاعتها وحدها متن الريح، وبلوغها مآربها، بسرعة عجيبة فما للخيال - وهذه الحال - لا ينقب من جديد، عن وسائل جديدة لإشباع نهمته بابتكار وسائل تطيير الإنسان والخيال لين الجانب، رقيق القلب، مرهف العواطف دقيق الإحساس، ولذا كم كان يتأثر بهذه الأنات تخرج من صدور البشر، طورا في قالب قصصي هادئ، وطورا في قالب شعري ثائر؛ وكأنها تكشف عما يكنه الإنسان من رغبة ملحة في محاكاة هذا الطير الضعيف في الانتقال على متن الهواء ألم يقل شاعرهم:
بكيت على سرب القطا إذ مررن بي ... فقلت ومثلي بالبكاء جدير
أسرب القطا هل من معير جناحه ... لعلي إلى من قد هويت أطير
فهذا الشاعر صور أروع تصوير عاطفة بشرية عامة متغلغلة القدم، نشأت مع نشأة مشاهدة الإنسان لهذا النوع الصغير من الحيوان، يمتلك الأجواء وينطلق في السماء كالسهام بما ركبت فيه من أجنحة دقيقة، وقوة إلهية خفية. وبكي بكاء مرا حينما شاهد هذا السرب من القطا طائرا لأنه عرف أنه بالغ مطلبه في أقرب برهة، وأنه ليس كمثله إن أراد المحبوب وصالا أو عن مكروه انتقالا. تكلف هبوط الوديان وتوقل شم الجبال ويبكي لأنه يحس بالغيبة المرة في هذا السبيل، فبعيد عنه تحقيق حلم الطيران الذهبي. يظل الخيال باحثا منقبا طائرا سائرا، مستحثا للمقل وحاضا للعلم على ارتياد خطاه وفحص نتائج بحوثه. فقد هداه الاختبار أن بإمكان الطيران للإنسان، وهكذا كان فلقد طار عباس بن فرناس في عصر الحضارة العربية، ثم في عصر النهضة الحديثة عم الطيران وارتقى رقيا باهرا ولا يزال في التحسين والتأمين والتنظيم والتجديد.
ولقد قرأنا كثيرا من الأدلة الناطقة على ما للخيال من فضل ملموس على ازدهار أفنان الحضارة البشرية سواء في عالم العلم أو الأدب، أو الطب أو الصناعة أو التجارة أو الزراعة أو السياسة أو الفن. فتدوين العلوم وحوك الآداب وترقية وسائل المعالجة وتشييد المعامل وإصدار البضائع واستيرادها وبذر الزروع المختلفة والدعوة إلى إنهاض الشعوب. وتوحيد وجهاتها وترقية الفنون الجميلة - كل هذه ثمرات لذيذة قدمتها يد الأجيال للإنسان على أطباق التجاوب ودقة الملاحظات والاستنتاج والمقارنة والشغف بالمثل العليا في كل شيء. وهذه اللا سلكيات، الهاتفات والحاكيات كلها من ثمار قرائح الخيال الخصبة، وهل جاءك نبأ الطيارة التي تسير في البر كالقطار أو السيارة وتمخر عباب البحر كالباخرة في وقت واحد، إنها يا صاح من عمل يد الخيال الصناع قبل أن تكون من صنع يد العمال.
وإن أشد الناس صلة بالخيال، وأحفلهم بالعناية به هم طائفة الأدباء، لهذا كان الأدب من قديم نواة الحضارة وحادي قافلتها السيارة؛ لأنه مزرعة الخيال.
وقد يتخيل الأديب اختراعات مدهشة، ويستنبط استنباطات رائعة، ويسطر ما ارتأه بعين خياله النافذة في صفحات روايته، أو بين سطور قصيدته فيشغف الناس بتلاوتها ومطالعتها لما جمعته من روعة الخيال وسمو التعبير، وتأسر لب بعضهم، ويعن له أن يسعى في تحقيق هذا الخيال الطريف، فإذا وفق إلى ما يبتغي قلده الناس وسام الكبار، ووضعوه في مصاف رافعي علم الحضارة الخالدين..
ويظل الأديب الذي كان خياله أساس الفكرة مغمورا مجهولا، لا يقام له وزن في عالم الاختراع والابتكار. وفي حياته قد يلاقي عنتًا وتشهيرًا إزاء ما جاد به من خيال فياض. حقيقة أن الأديب كالشمعة يضيء الناس، وهو يحترق وحقيقة أن الأدب لمظلوم؛ وحقيقة أن الخيال لمهضوم.
لقد كان السماع من بعد خيالا رائعا، وحلمًا لذيذًا، جرى على ألسنة الأدباء قبل العلماء، ولقد كانت التلفزة (الرؤية من بعد) خيالا قصصيا، جادت به قرائح الأدباء. وها نحن أصبحنا اليوم نسمع بواسطة «المذياع» أصواتًا تبعد عنا مئات الأميال، وها هو التلفاز (جهاز الرؤية من بعد) أصبح مستعملا ترى به الأشخاص. وتنقل به الصور من آلاف الأقدام.
وللخيال علينا نحن أبناء هذا العصر فضل جديد، فقد أخصبت تربته إخصابا عائقا فبدأ يكشف لنا بمجهره عن مجاهل المستقبل في حضارته وألوان حياته، وها هو يكشف لنا الغطاء عن أهوال الحروب المقبلة التي تنبني على الغازات الخانقة، والطيارات الفاتكة، والويلات المتدفقة، والبلايا النازلة، ثم ها هو إلى جانب ذلك يصور لنا كيف يعود البشر إلى البساطة الأولى والتسامح والتصافي بعد انهيار هذه الحضارة التي تحمل بيديها وسائل انتحارها، وها هو يمثل لنا سيرة (السوبرمان) ذلك الإنسان المتفوق، في عقله الرصين، وجسمه النشيط، الذى يحقق حلم الخيال الذهبي القديم، في سبيل تدعيم المؤاخاة الإنسانية الممتازة بانمحاء الفوارق وانمحاق عوامل الضغن الخلقي والكيد الدنيء، والمكر الوبيل والحسد الفتاك.
حقيقة أن صوت الخيال، في عموم الأجيال؛ هو الحافز للبشرية؛ المهيب بها، الداعي لها إلى اعتناق الفضائل، ونبذ الرذائل.
1937*
*مؤرخ وكاتب وصحافي سعودي «1906 - 1983»
بكيت على سرب القطا إذ مررن بي ... فقلت ومثلي بالبكاء جدير
أسرب القطا هل من معير جناحه ... لعلي إلى من قد هويت أطير
فهذا الشاعر صور أروع تصوير عاطفة بشرية عامة متغلغلة القدم، نشأت مع نشأة مشاهدة الإنسان لهذا النوع الصغير من الحيوان، يمتلك الأجواء وينطلق في السماء كالسهام بما ركبت فيه من أجنحة دقيقة، وقوة إلهية خفية. وبكي بكاء مرا حينما شاهد هذا السرب من القطا طائرا لأنه عرف أنه بالغ مطلبه في أقرب برهة، وأنه ليس كمثله إن أراد المحبوب وصالا أو عن مكروه انتقالا. تكلف هبوط الوديان وتوقل شم الجبال ويبكي لأنه يحس بالغيبة المرة في هذا السبيل، فبعيد عنه تحقيق حلم الطيران الذهبي. يظل الخيال باحثا منقبا طائرا سائرا، مستحثا للمقل وحاضا للعلم على ارتياد خطاه وفحص نتائج بحوثه. فقد هداه الاختبار أن بإمكان الطيران للإنسان، وهكذا كان فلقد طار عباس بن فرناس في عصر الحضارة العربية، ثم في عصر النهضة الحديثة عم الطيران وارتقى رقيا باهرا ولا يزال في التحسين والتأمين والتنظيم والتجديد.
ولقد قرأنا كثيرا من الأدلة الناطقة على ما للخيال من فضل ملموس على ازدهار أفنان الحضارة البشرية سواء في عالم العلم أو الأدب، أو الطب أو الصناعة أو التجارة أو الزراعة أو السياسة أو الفن. فتدوين العلوم وحوك الآداب وترقية وسائل المعالجة وتشييد المعامل وإصدار البضائع واستيرادها وبذر الزروع المختلفة والدعوة إلى إنهاض الشعوب. وتوحيد وجهاتها وترقية الفنون الجميلة - كل هذه ثمرات لذيذة قدمتها يد الأجيال للإنسان على أطباق التجاوب ودقة الملاحظات والاستنتاج والمقارنة والشغف بالمثل العليا في كل شيء. وهذه اللا سلكيات، الهاتفات والحاكيات كلها من ثمار قرائح الخيال الخصبة، وهل جاءك نبأ الطيارة التي تسير في البر كالقطار أو السيارة وتمخر عباب البحر كالباخرة في وقت واحد، إنها يا صاح من عمل يد الخيال الصناع قبل أن تكون من صنع يد العمال.
وإن أشد الناس صلة بالخيال، وأحفلهم بالعناية به هم طائفة الأدباء، لهذا كان الأدب من قديم نواة الحضارة وحادي قافلتها السيارة؛ لأنه مزرعة الخيال.
وقد يتخيل الأديب اختراعات مدهشة، ويستنبط استنباطات رائعة، ويسطر ما ارتأه بعين خياله النافذة في صفحات روايته، أو بين سطور قصيدته فيشغف الناس بتلاوتها ومطالعتها لما جمعته من روعة الخيال وسمو التعبير، وتأسر لب بعضهم، ويعن له أن يسعى في تحقيق هذا الخيال الطريف، فإذا وفق إلى ما يبتغي قلده الناس وسام الكبار، ووضعوه في مصاف رافعي علم الحضارة الخالدين..
ويظل الأديب الذي كان خياله أساس الفكرة مغمورا مجهولا، لا يقام له وزن في عالم الاختراع والابتكار. وفي حياته قد يلاقي عنتًا وتشهيرًا إزاء ما جاد به من خيال فياض. حقيقة أن الأديب كالشمعة يضيء الناس، وهو يحترق وحقيقة أن الأدب لمظلوم؛ وحقيقة أن الخيال لمهضوم.
لقد كان السماع من بعد خيالا رائعا، وحلمًا لذيذًا، جرى على ألسنة الأدباء قبل العلماء، ولقد كانت التلفزة (الرؤية من بعد) خيالا قصصيا، جادت به قرائح الأدباء. وها نحن أصبحنا اليوم نسمع بواسطة «المذياع» أصواتًا تبعد عنا مئات الأميال، وها هو التلفاز (جهاز الرؤية من بعد) أصبح مستعملا ترى به الأشخاص. وتنقل به الصور من آلاف الأقدام.
وللخيال علينا نحن أبناء هذا العصر فضل جديد، فقد أخصبت تربته إخصابا عائقا فبدأ يكشف لنا بمجهره عن مجاهل المستقبل في حضارته وألوان حياته، وها هو يكشف لنا الغطاء عن أهوال الحروب المقبلة التي تنبني على الغازات الخانقة، والطيارات الفاتكة، والويلات المتدفقة، والبلايا النازلة، ثم ها هو إلى جانب ذلك يصور لنا كيف يعود البشر إلى البساطة الأولى والتسامح والتصافي بعد انهيار هذه الحضارة التي تحمل بيديها وسائل انتحارها، وها هو يمثل لنا سيرة (السوبرمان) ذلك الإنسان المتفوق، في عقله الرصين، وجسمه النشيط، الذى يحقق حلم الخيال الذهبي القديم، في سبيل تدعيم المؤاخاة الإنسانية الممتازة بانمحاء الفوارق وانمحاق عوامل الضغن الخلقي والكيد الدنيء، والمكر الوبيل والحسد الفتاك.
حقيقة أن صوت الخيال، في عموم الأجيال؛ هو الحافز للبشرية؛ المهيب بها، الداعي لها إلى اعتناق الفضائل، ونبذ الرذائل.
1937*
*مؤرخ وكاتب وصحافي سعودي «1906 - 1983»