فاطمة آل تيسان

في مجتمع يشهد تحولات عميقة على مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، تبرز الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى للحديث بوعي عن الصحة النفسية بوصفها ركيزة أساسية في بناء الإنسان المتوازن والمنتج. فالضغوط الحياتية، وتحديات العمل، وتقلب العلاقات الإنسانية، وتجارب الفقد والخذلان، لم تعد تجارب فردية معزولة بل واقعًا يتقاطع معه كثيرون في صمت، خشية الوصم الاجتماعي أو سوء الفهم. اعتاد البعض اعتبار الألم ضعفًا يجب إخفاؤه، بينما يؤكد المختصون في المجال النفسي أن التعبير عن المشاعر والاعتراف بالحاجة إلى الدعم ليسا خللًا في الشخصية، بل هو دليل نضج إنساني. فالقوة الحقيقية لا تكمن في الصمت طويلًا أمام المعاناة بل في مواجهة الألم بشجاعة وطلب المساندة الملائمة في الوقت المناسب. كثيراً ما يذكر خبراء الصحة النفسية أن الحديث عن التجارب الصعبة يمكن أن يكون خطوة أولى نحو التعافي، ويحد من الآثار السلبية للأزمات على المدى الطويل، وتشير الدراسات الحديثة إلى مفهوم «النمو بعد الصدمة»، حيث تتحول التجارب القاسية إلى محطات فارقة تعيد تشكيل نظرة الإنسان لنفسه وللعالم من حوله، فالإنسان بعد الألم يصبح أكثر قدرة على ترتيب أولوياته وأدق انتخابًا لعلاقاته وأكثر تقديرًا لما يمتلكه من إمكانيات داخلية وتنمو لديه مهارات التكيف والمرونة النفسية، التي تُعد اليوم من أهم مقومات النجاح الشخصي والمهني، والتي تساعده على التعامل مع الضغوط اليومية بوعي أكبر بعيدًا عن الانفعال المفرط أو اليأس، وفي واقعنا اليوم يبرز الدور المتزايد للمبادرات الوطنية التي تنسجم مع مستهدفات رؤية المملكة 2030 في تعزيز جودة الحياة، ورفع مستوى الوعي بالصحة النفسية وتكثيف البرامج الإرشادية والدعم المجتمعي. فهذه الرؤية لا تقتصر على التنمية الاقتصادية والبنية التحتية بل تمتد إلى بناء إنسان سعودي متزن نفسيًا، وواع بذاته وقادر على إدارة ضغوط حياته بثقة ومسؤولية وهو ما يعكس فهمًا متقدمًا لمفهوم التنمية الشامل، غير أن المسؤولية لا تقع على الجهات الرسمية وحدها، بل تبدأ من الأسرة بوصفها الحاضنة الأولى للاستقرار النفسي. فالحوار المفتوح داخل المنزل واحترام مشاعر الأبناء وتقبّل التعبير العاطفي دون تقليل أو سخرية، كلها عوامل تؤسس لأجيال قادرة على مشاركة همومها دون خوف أو تردد وتأتي المدرسة والجامعة بعد ذلك، لتكمل هذا الدور عبر برامج التوجيه النفسي والتربوي وتعزيز مهارات الذكاء العاطفي والتواصل الإنساني، مما يسهم في خلق جيل قادر على مواجهة التحديات المجتمعية بثقة ومسؤولية. كما تلعب وسائل الإعلام، ومنها الصحافة، دورًا مهمًا في إعادة صياغة النظرة المجتمعية للألم النفسي، حين تقدم قصص النجاح المرتبطة بتجاوز الأزمات، وتناقش القضايا النفسية بطرح مهني متزن، بعيدًا عن التهويل أو الوصم، فالكلمة الواعية لا تصنع رأيًا عامًا فقط بل تفتح أبواب الأمل والتغيير، وتسهم في بناء مجتمع أكثر فهمًا وتعاطفًا مع أفراده. وفي عصر مواقع التواصل الاجتماعي، تتضاعف التحديات النفسية بفعل المقارنات المستمرة، والسعي وراء الصورة المثالية، وضغوط تقمص نماذج النجاح السريع. وهنا أصبح من الضروري تنمية الوعي لدى الأفراد، وترسيخ مفهوم أن ما يُعرض على الشاشات ليس دائمًا انعكاسًا للواقع الكامل، وأن لكل إنسان رحلته الخاصة التي لا يصح مقارنتها بغيرها، فالواقع أحيانًا أبسط وأعمق مما يظهر على السطح. الوجع في جوهره ليس نهاية الطريق بل نقطة تحوّل. فكل أزمة تحمل معها فرصة لإعادة النظر في أنماط التفكير وتحرير الإنسان من التعلّق بما يستنزف طاقته العاطفية أو يعيقه عن النمو، وحين يتعلّم المجتمع (أفرادًا ومؤسسات) كيف يحتضن الألم بدل إنكاره، سنصنع بيئة صحية قادرة على تقديم أفراد متزنين، أسوياء نفسيًا قادرين على الإسهام الإيجابي في مسيرة الوطن التنموية، وكل تجربة صعبة مهما بدا حجمها كبيرًا، قد تكون منارات صغيرة تهدي الإنسان إلى ذاته وتزرع فيه قدرة على التعاطف، والوعي، والإبداع، وحين يُربكنا الوجع فإن الحقيقة تبدأ بالظهور واضحة ولسنا بحاجة إلى إنكار الألم، بل إلى فهمه والتصالح معه وتحويله إلى قوة دافعة، تصنع من الإنسان نسخة أكثر وعيًا بذاته، وأعمق حبًا لحياته، وأكثر قدرة على العطاء لوطنه ومجتمعه.