ما زال الكثير من جهات العمل حول العالم ومن بينها جهات لدينا، تربط بين طول ساعات الدوام وبين الإنتاجية، وكأن الموظف يصبح أكثر عطاءً كلما طال بقاؤه في المكتب. لكن الحقيقة التي تؤكدها عشرات الدراسات والتجارب الدولية تقول العكس تماماً: الساعات الطويلة لا ترفع الإنتاجية، بل تُضعفها. والوقت الأطول خلف المكتب لا يعني إنجازاً أكبر، بل غالباً ما يعني إرهاقاً أكثر وجودة أقل.
الإنسان ببساطة ليس آلة. تمرّ عليه لحظات نشاط وتركيز، ثم يبدأ مستواه بالهبوط تدريجياً. تؤكد دراسة بجامعة ستانفورد أن أداء الموظف يبدأ بالتراجع الحاد بعد 50 ساعة عمل أسبوعياً، وأن الساعات الإضافية مهما بلغ عددها، لا تعطي نتيجة تُذكر إذا كان الشخص مرهقاً. ولهذا السبب، أصبحت مسألة ساعات العمل محور نقاش عالمي يعاد التفكير فيها على نطاق واسع.
تاريخ هذه الفكرة قديم. ففي القرن التاسع عشر، كان العمال يعملون أكثر من 12 ساعة يومياً دون أي تنظيم. ومع الوقت، أدركت الدول أن هذا الضغط غير الإنساني لا يخدم لا العامل ولا صاحب العمل. فبدأت تخفيض ساعات العمل تدريجياً حتى تبنّت أغلب الدول مبدأ الـثمانية ساعات يومياً و40 ساعة أسبوعياً. كانت خطوة تهدف لحماية صحة الإنسان، لكنها بشكل مفاجئ رفعت الإنتاجية بدل أن تخفضها.
وفي العصر الحديث جاءت التجارب لتثبت أن تقليل ساعات العمل يمكن أن يكون أفضل قرار تتخذه أي مؤسسة. آيسلندا كمثال جرّبت تقليص ساعات العمل لمدة أربع سنوات، ووجدت أن الإنتاجية لم تتأثر، والموظفون أصبحوا أكثر راحة وسعادة. وفي بريطانيا، خاضت 61 شركة تجربة «أسبوع الأربعة أيام» فكانت النتيجة مذهلة 92 % من الشركات قررت الاستمرار في النظام الجديد لأنه أثبت فعاليته. أما مايكروسوفت اليابان فرفعت إنتاجية موظفيها بنسبة 40 % عندما خفّضت ساعات العمل ومنحتهم عطلة إضافية أسبوعياً. وحتى الشركات الصغيرة في نيوزيلندا أثبتت أن الموظف قادر على تقديم نفس حجم العمل في وقت أقل إذا شعر براحة أكبر وتوازن أفضل في حياته اليومية.
هذه التجارب لم تعد استثناء، بل أصبحت جزءا من موجة عالمية تعيد النظر في مفهوم العمل ذاته. إذ لم يعد الحضور الطويل هو المعيار، بل جودة ما يُنجز خلال ساعات محدودة، وتوفير بيئة تمنح الموظف وقتا كافيا لحياته الخاصة وصحته النفسية.
ومع ذلك، يبقى السؤال مطروحاً: لماذا تستمر بعض الجهات في التمسك بساعات طويلة لا تضيف شيئًا للإنتاج، خصوصاً في الوظائف التي لا تتطلب حضورا مستمرا؟ الواقع أن كثيرا من نماذج العمل التقليدية مبنية على موروثات قديمة، لا على معايير حديثة أو نتائج علمية. ومع تغير طبيعة الحياة وتطور متطلبات المجتمع، بات من الضروري إعادة التفكير بشكل جذري في شكل يوم العمل، ليس كترف تنظيمي، بل كضرورة لتعزيز الإنتاجية وجودة الحياة. والشيء اللافت أن دول معروفة بإنتاجيتها العالية مثل دول شمال أوروبا، هي نفسها التي تملك أقل ساعات عمل في العالم.
ومن زاوية محلية، أعتقد وانطلاقاً من طبيعتنا المجتمعية والثقافية، أننا قادرون على ابتكار نموذج مختلف تماماً يتناسب مع إيقاع حياتنا اليومية. فمواقيت الصلاة تمنح يومنا شكلاً واضحاً ومنظماً، ويمكن أن تكون أساساً لجدولة يوم العمل بطريقة أكثر واقعية وملاءمة.
فمثلاً، لو بدأ الدوام بعد صلاة الفجر وانتهى مع صلاة الظهر، مع تقليص فترات الاستراحة الممتدة أصلاً لوقت أطول مما يلزم، فإن العمل سيجري في الساعات الأكثر صفاءً ونشاطاً خلال اليوم. ففي هذا الوقت المبكر يكون الذهن في أعلى درجات التركيز، والطاقة في ذروتها، والجو أكثر لطفاً وهدوء، مما ينعكس مباشرة على جودة الأداء وسرعة الإنجاز. وبعد الظهر تبقى بقية اليوم للعائلة، وممارسة الرياضة، والراحة القصيرة والقيلولة، ثم بعد العصر والمغرب لصلة الرحم والواجبات الاجتماعية واستعادة توازن الجسد والعقل، إضافة إلى تنمية العلاقات الاجتماعية وتبادل الخبرات مع الأصدقاء في أوقات ترفيهية بعيدة عن ضغوط العمل.
وكسعوديين، بطبعنا شعب محب للحياة الاجتماعية، ويرى في اللقاءات العائلية والمجالس الودية جزءا أصيلا من يومه وهويته، وليس مجرد نشاط جانبي. هذا البعد الاجتماعي يعزز الاستقرار النفسي ويرفع جودة الحياة، وهو عامل رئيس في تحفيز الموظف ورفع مستوى رضاه وحضوره الذهني في اليوم التالي. فالموظف الذي يعيش توازنا صحيا بين عمله وحياته الخاصة يعود إلى مكتبه بطاقة أعلى وقدرة أوضح على الإبداع والإنتاج.
ومثل هذا النموذج في تنظيم ساعات العمل لا يحسّن جودة الحياة فحسب، بل يعزز الإنتاجية أيضاً، لأنه يستثمر أكثر ساعات اليوم نشاطا وفاعلية، ويمنح الإنسان مساحة زمنية يعيش فيها حياته كما يحب، ليعود إلى عمله أكثر اتزان وتركيز وعطاء.
ولأن النقاش حول ساعات العمل لا يُعد ترفاً إدارياً، بل قضية ترتبط مباشرة بصحة الإنسان واستقراره وإنتاجيته، فإن عالم اليوم الذي يتجه نحو إعادة تعريف مفهوم العمل يمنحنا فرصة لإعادة النظر في شكل يومنا الوظيفي بما يعكس قيمنا وأسلوب حياتنا، ويضع الإنسان في قلب منظومة العمل لا على أطرافها.
عالم اليوم الذي يتجه نحو إعادة تعريف مفهوم العمل يمنحنا فرصة لإعادة النظر في يومنا الوظيفي بما يعكس قيمنا.
الإنسان ببساطة ليس آلة. تمرّ عليه لحظات نشاط وتركيز، ثم يبدأ مستواه بالهبوط تدريجياً. تؤكد دراسة بجامعة ستانفورد أن أداء الموظف يبدأ بالتراجع الحاد بعد 50 ساعة عمل أسبوعياً، وأن الساعات الإضافية مهما بلغ عددها، لا تعطي نتيجة تُذكر إذا كان الشخص مرهقاً. ولهذا السبب، أصبحت مسألة ساعات العمل محور نقاش عالمي يعاد التفكير فيها على نطاق واسع.
تاريخ هذه الفكرة قديم. ففي القرن التاسع عشر، كان العمال يعملون أكثر من 12 ساعة يومياً دون أي تنظيم. ومع الوقت، أدركت الدول أن هذا الضغط غير الإنساني لا يخدم لا العامل ولا صاحب العمل. فبدأت تخفيض ساعات العمل تدريجياً حتى تبنّت أغلب الدول مبدأ الـثمانية ساعات يومياً و40 ساعة أسبوعياً. كانت خطوة تهدف لحماية صحة الإنسان، لكنها بشكل مفاجئ رفعت الإنتاجية بدل أن تخفضها.
وفي العصر الحديث جاءت التجارب لتثبت أن تقليل ساعات العمل يمكن أن يكون أفضل قرار تتخذه أي مؤسسة. آيسلندا كمثال جرّبت تقليص ساعات العمل لمدة أربع سنوات، ووجدت أن الإنتاجية لم تتأثر، والموظفون أصبحوا أكثر راحة وسعادة. وفي بريطانيا، خاضت 61 شركة تجربة «أسبوع الأربعة أيام» فكانت النتيجة مذهلة 92 % من الشركات قررت الاستمرار في النظام الجديد لأنه أثبت فعاليته. أما مايكروسوفت اليابان فرفعت إنتاجية موظفيها بنسبة 40 % عندما خفّضت ساعات العمل ومنحتهم عطلة إضافية أسبوعياً. وحتى الشركات الصغيرة في نيوزيلندا أثبتت أن الموظف قادر على تقديم نفس حجم العمل في وقت أقل إذا شعر براحة أكبر وتوازن أفضل في حياته اليومية.
هذه التجارب لم تعد استثناء، بل أصبحت جزءا من موجة عالمية تعيد النظر في مفهوم العمل ذاته. إذ لم يعد الحضور الطويل هو المعيار، بل جودة ما يُنجز خلال ساعات محدودة، وتوفير بيئة تمنح الموظف وقتا كافيا لحياته الخاصة وصحته النفسية.
ومع ذلك، يبقى السؤال مطروحاً: لماذا تستمر بعض الجهات في التمسك بساعات طويلة لا تضيف شيئًا للإنتاج، خصوصاً في الوظائف التي لا تتطلب حضورا مستمرا؟ الواقع أن كثيرا من نماذج العمل التقليدية مبنية على موروثات قديمة، لا على معايير حديثة أو نتائج علمية. ومع تغير طبيعة الحياة وتطور متطلبات المجتمع، بات من الضروري إعادة التفكير بشكل جذري في شكل يوم العمل، ليس كترف تنظيمي، بل كضرورة لتعزيز الإنتاجية وجودة الحياة. والشيء اللافت أن دول معروفة بإنتاجيتها العالية مثل دول شمال أوروبا، هي نفسها التي تملك أقل ساعات عمل في العالم.
ومن زاوية محلية، أعتقد وانطلاقاً من طبيعتنا المجتمعية والثقافية، أننا قادرون على ابتكار نموذج مختلف تماماً يتناسب مع إيقاع حياتنا اليومية. فمواقيت الصلاة تمنح يومنا شكلاً واضحاً ومنظماً، ويمكن أن تكون أساساً لجدولة يوم العمل بطريقة أكثر واقعية وملاءمة.
فمثلاً، لو بدأ الدوام بعد صلاة الفجر وانتهى مع صلاة الظهر، مع تقليص فترات الاستراحة الممتدة أصلاً لوقت أطول مما يلزم، فإن العمل سيجري في الساعات الأكثر صفاءً ونشاطاً خلال اليوم. ففي هذا الوقت المبكر يكون الذهن في أعلى درجات التركيز، والطاقة في ذروتها، والجو أكثر لطفاً وهدوء، مما ينعكس مباشرة على جودة الأداء وسرعة الإنجاز. وبعد الظهر تبقى بقية اليوم للعائلة، وممارسة الرياضة، والراحة القصيرة والقيلولة، ثم بعد العصر والمغرب لصلة الرحم والواجبات الاجتماعية واستعادة توازن الجسد والعقل، إضافة إلى تنمية العلاقات الاجتماعية وتبادل الخبرات مع الأصدقاء في أوقات ترفيهية بعيدة عن ضغوط العمل.
وكسعوديين، بطبعنا شعب محب للحياة الاجتماعية، ويرى في اللقاءات العائلية والمجالس الودية جزءا أصيلا من يومه وهويته، وليس مجرد نشاط جانبي. هذا البعد الاجتماعي يعزز الاستقرار النفسي ويرفع جودة الحياة، وهو عامل رئيس في تحفيز الموظف ورفع مستوى رضاه وحضوره الذهني في اليوم التالي. فالموظف الذي يعيش توازنا صحيا بين عمله وحياته الخاصة يعود إلى مكتبه بطاقة أعلى وقدرة أوضح على الإبداع والإنتاج.
ومثل هذا النموذج في تنظيم ساعات العمل لا يحسّن جودة الحياة فحسب، بل يعزز الإنتاجية أيضاً، لأنه يستثمر أكثر ساعات اليوم نشاطا وفاعلية، ويمنح الإنسان مساحة زمنية يعيش فيها حياته كما يحب، ليعود إلى عمله أكثر اتزان وتركيز وعطاء.
ولأن النقاش حول ساعات العمل لا يُعد ترفاً إدارياً، بل قضية ترتبط مباشرة بصحة الإنسان واستقراره وإنتاجيته، فإن عالم اليوم الذي يتجه نحو إعادة تعريف مفهوم العمل يمنحنا فرصة لإعادة النظر في شكل يومنا الوظيفي بما يعكس قيمنا وأسلوب حياتنا، ويضع الإنسان في قلب منظومة العمل لا على أطرافها.
عالم اليوم الذي يتجه نحو إعادة تعريف مفهوم العمل يمنحنا فرصة لإعادة النظر في يومنا الوظيفي بما يعكس قيمنا.