التراجع في مستوى تأهيل العمالة أدى إلى تدني أجورهم، وهو ما يرفع الطلب عليهم، فالشركات الكبرى ستدفع بعد التوطين ربما ضعف ما كانت تدفعه من مرتبات للأجانب غير المؤهلين

ألا تتذكرون مقطع الفيديو الشهير الذي يظهر فيه شباب من الإمارات قادمون للسعودية وهم ينزلون في غرفة في إحدى استراحات الطرق، وكيف أخذوا يجولون بالكاميرا على الجدران المتسخة بالكتابات، والأثاث الرديء؟ بالتأكيد كلنا نتذكره، وبالتأكيد أننا جميعا نعيش ذات الشعور حين نقصد تلك الأماكن على الطرق السريعة. السبب ليس لأن محطات الطرق ظلت مهملة فحسب، ولا لأن حجم الاستثمار فيها غير مربح، كلا: السبب الأبرز أن الذي يدير ويستثمر تلك الأماكن هم عمالة عابرة لا ترى مبررا لتطوير الخدمة، لأنها باختصار لا تخطط لاستمرارها ولا للمنافسة بها ولا لتطويرها مستقبلا. أهلا بكم في أحد أسوأ الآثار الناجمة عن هذا الوضع المتردي للعمالة في السعودية. إن حياتنا في المدن السعودية لم تعد راقية، نحن نملك المال، لكننا نعيش مستوى مترديا جدا في الخدمة والتميز، فتش عن العامل العابر. ولعل الترتيب الأخير الذي صدر بشأن محطات الطرق من شأنه أن يركز أولا على إدارة ونوع الاستثمارات والعمالة التي تضمها.
أيضا في كثير من الأحياء الراقية في الرياض وجدة، تجد مجموعة من البقالات تذكرك بالبقالة في السبعينات، المحل متسخ للغاية ويفتقد لأي لمسة تسويقية، ومليء بالغبار والأتربة، وهناك عامل يحتكر الشارع مع زملائه، ما الذي يمكن أن يجعله يفكر في بذل الكثير من المال لتطوير بقالته؟ هكذا تحولت دولتنا بالنسبة للعمالة، كما يسميها جمال خاشقجي، بأنها دار ممر وليست مقر.
ربما ليس من المبالغة القول إن أسوأ عمالة أجنبية في الدنيا هي العمالة التي لدينا في المملكة، من حيث التدريب والتأهيل، أضف إلى ذلك أننا أهملنا كثيرا التدقيق في تلك الجوانب وفي نوعية ومستوى العمالة حتى تحولنا إلى بلد يضم العمالة الأضخم وفي ذات الوقت الأسوأ.
من بين السبعة ملايين أجنبي (وهؤلاء هم النظاميون، ناهيك عن عدد يزيد عن أربعة ملايين غير نظامي) كم نسبة الأطباء والمهندسين والعلماء والمتميزين منهم، وكم نسبة الذين يمثل وجودهم تلبية لاحتياج فعلي في المعادلة التنموية في المملكة، الجواب بالتأكيد غير مشرف. هذا التراجع في مستوى تأهيل العمالة أدى إلى تدني أجورهم للغاية، وهو ما يرفع الطلب عليهم، بل يكاد يكون هذا هو السبب الأبرز وراء تحول الأجور إلى قضية، فالمؤسسات والشركات الكبرى ستدفع بعد التوطين والسعودة ربما ضعف ما كانت تدفعه من مرتبات للأجانب غير المؤهلين. جرب أن تقارن بين مقدمي الخدمة في المطاعم في الرياض أو جدة وبين مقدمي المطاعم في بعض العواصم العربية والأوروبية، وستلاحظ الفرق في الطريقة والنظافة ومستوى التدريب والتأهيل، هذا الواقع انعكس سلبا على نوع الخدمات التي نجدها في الشارع وفي المطعم وفي المقهى وفي الفندق، وبالتالي انعكس على مستوى تلك المرافق أصلا، نحن مغرمون بالمقارنة بين فنادقنا وفنادق الغير، وبين محطات الطرق لدينا ومحطات الغير، ولكننا نتجاهل نوع العمالة وفكرة الكسب المؤقت الذي يسعون خلفه، وهو ما لا يجبرهم أبدا لا على تطوير الخدمة ولا على تطوير تلك المرافق. انظروا كيف تنقل الصحف قصة السعودي الذي يفتتح ويدير ورشة لإصلاح السيارات أو مطعما أو محل حلاقة، وكيف يتطور ذلك العمل ويستمر، يحدث هذا لا لأن السعوديين مبدعون في هذه المجالات، بل لأن الذين يعملون لمستقبلهم ينطلقون من فكرة الكسب المستمر ومصدر الدخل المتطور، بينما تلك المجاميع من العمالة يعملون من خلال أقل تكلفة للحصول على أسرع دخل.
هذا الواقع للعمالة هو من أبرز أسباب انهيار الخدمات العامة لدينا، ومن أسباب غياب الاستمتاع بها والإقبال، وبالتالي فالعزوف العام الذي نشاهده عن مختلف الخدمات الترفيهية والعامة في المملكة يرتبط بهذا الواقع المتردي للعمالة. أصبحنا نتحسر كثيرا على المال الذي ننفقه في الداخل، ولا نبالي ونحن نصرفه في الخارج، واستمع إلى قصص السعوديين عن المقارنة بين ما يصرفونه في أي مصيف خارجي وبين ما يصرفونه في الداخل، وكيف هم راضون عن الخارج، ممتعضون جدا في الداخل. إن العامل غير المدرب في الداخل الذي يجني مالا وفيرا في مهنته، يدرك أنه لا يحصل على ذلك نتيجة ما يملكه من تأهيل، بل نتيجة ما هو فيه من واقع يقوم على الإهمال والعمل الرخيص المتوفر بكثرة، وهو ما أدى إلى تراجع مستوى الخدمات وإحجامها عن التحول إلى الأنظمة الآلية، لكي تظل تلك المهن التي لا تحتاج إلى تأهيل، ولكي يظل لتلك اليد العاملة غير المدربة مكان للعمل، مثلا لماذا إلى الآن لا توجد لدينا مغاسل السيارات الآلية؟ ولماذا لا تزال تنتشر لدينا المخابز اليدوية؟ ولماذا لا يزال كثير من المصانع تفتقر لخطوط الإنتاج الميكانيكية؟ باختصار لأن العمل اليدوي أرخص لصاحب العمل، وأكثر جدوى للعامل، وأكثر ربحية مع ما يؤدي إليه من تراجع في مستوى الخدمة وفي مستوى المنتج.
الآن نحن بحاجة لقليل من الألم، وكثير من الاضطرار، لأن وضع العمالة الحالي غير منطقي أبدا، إنه أبرز عوائق النجاح والتغيير، هذا الملف يجب أن يكون ملفنا الأول من أجل الوصول إلى مجتمع طبيعي ومنتج ومتوازن، ولنواصل الحرب ضد أخطائنا القديمة.