قيادات التغرير وفئات التكفير وجدت في شبابنا العربي فريستها المثالية، لقلقهم النفسي وتخبطهم الفكري، وافتقارهم للوازع الوطني، وعدم الرضا عن أهداف الحياة بسبب فراغهم وضياعهم
من قلب صادق يفيض بالحب الممزوج بالألم، طالب خادم الحرمين الشريفين يوم الثلاثاء الماضي بتغليظ الأحكام بمن يغررون بالشباب والأطفال حتى لا يلقوا بأنفسهم في التهلكة ويخسرهم الوطن.
التغرير هو إظهار الطرف المُغَرِر للشيء بمظهر غير حقيقي، مع إعطائه صفةً ليست له، لكي يستثير رغبة الطرف الآخر المُغَررُ به بوسائل الإغراء القولية أو الفعلية الكاذبة، ودفعه على إبرام العقد، وحمله على تنفيذه. في التجارة يتم التغرير بالمستهلك من خلال عقود البيع والشراء للسلع الفاسدة والخدمات المغشوشة. وفي سوق المال يتم التغرير بالمُستثمر من خلال عقود المضاربة الوهمية. وفي المجتمع يتم التغرير بالزوج أو الزوجة من خلال عقود الزواج المُبهمة. وفي التعليم يتم التغرير بالطلاب من خلال أساليب التعليم والتدريب الخاطئة. وفي الإعلام يتم التغرير بالمشاهد والمستمع من خلال نشر الثقافات المغرضة والأفكار الهدامة. وفي العقائد يتم التغرير بالشباب الساذج من خلال الخطاب الديني المتشدد والدعوة للجهاد في غير موقعه.
في يوم الأربعاء الماضي كشفت مصادر أمنية في محافظة حجة اليمنية الواقعة على الحدود السعودية عن احتفال قيادات التغرير بتخريج وتوديع عشرات الشباب الذين تم تجنيدهم وتدريبهم على مدى 6 أشهر بهدف إرسالهم إلى سورية للقتال مع الجيش السوري الحر. وأكدت هذه المصادر أن كل عائلة من عائلات المُغَرَر بهم استلمت 3000 دولار أميركي مقابل الصيد الثمين لأحد أبنائها المتطوعين للجهاد. وفي تونس كشفت الأجهزة الاستخباراتية عن قيام مجموعات جهادية بتغرير حوالي 150 طفلاً في منطقة القصرين، لا يزيد عمر أصغرهم عن 15 سنة، من أجل تدريبهم وتحويلهم إلى سورية عن طريق ليبيا للجهاد في بلاد الرافدين.
وفي 11 سبتمبر 2001، قامت مجموعة من المُغَرَر بهم بالاستيلاء على 3 طائرت ركاب أميركية وتوجيهها للارتطام ببرجي التجارة العالمي بمدينة نيويورك ومركز البنتاجون في واشنطن.
معظم شباب العالم يعيش مرحلة حرجة من الحماس المتناهي وضعف الخبرة والنظرة القصيرة، مما يؤهلهم للانجراف في المزيد من التخبط والعشوائية، ويجعلهم فريسةً مثالية لقيادات التغرير، التي تقوم على استخدام حماسهم وتطويع عقولهم وتوجيه أهدافهم للشر والبلاء، لذا لجأت معظم دول العالم إلى تقويم عقول شبابها بتنظيم تعليمهم وتطويع مهاراتهم باختيار المعلمين الأكفاء لتوجيه أفكارهم من خلال حثهم على استخدام أدوات العقل والفكر والمعرفة ونبذ أساليب الحشو والتلقين، وتعزيز قدراتهم بوسائل القراءة والبحث والابتكار، بدلاً من الخضوع للحفظ والتقليد، وتشجيعهم على استغلال أوقات فراغهم في إتقان مهاراتهم الرياضية والمسرحية والموسيقية.
منظمة اليونسكو العالمية عزت تأخر شباب العالم العربي وانجرافه نحو الهلاك بسبب ضعف مستوى القراءة والمعرفة في مدارسنا ومعاهدنا لانتشار الفضائيات وسهولة استخدام الإنترنت. وأوضحت المنظمة أن الحقيقة المرَّة لتراجع ثقافة شبابنا تكمن في أن عالمنا العربي لا ينتج سوى 1.1% فقط من معدّل الإنتاج العالمي للكتاب، وأن كل 20 عربياً يقرأ كتاباً واحداً فقط في السنة، بينما يقرأ الأوروبي7 كُتب في العام، وأن معدّل القراءة عند الشاب العربي يبلغ 6 دقائق في السنة مقابل 36 ساعة للإنسان الغربي. وأكدت الدراسة أنه بالرغم من تساوي عدد سكان العالم العربي بسكان أميركا، نجد أن ما يَصْدُر في الوطن العربي من كتب جديدة في السنة لا يزيد عن 5000 كتاب، بينما يَصْدُر في أميركا ما يزيد على 290 ألف كتاب جديد سنوياً، وأن إسبانيا تترجم سنوياً من الكتب التي يفوق عددها ما ترجمه العالم العربي خلال الألف عام التي مضَت منذ عهد الخليفة المأمون.
ضعف القراءة والثقافة في عالمنا العربي يؤدي إلى تراجع قدرات شبابنا العقلية، ويؤثر سلباً على هويتهم الاجتماعية وتماديهم في التقليد الأعمى، إضافة إلى تفاقم شعورهم بالفراغ والعجز والعزلة وفقدان المعايير وعدم وضوح رؤيتهم المستقبلية.. وهذا يؤدي إلى فقدان الشباب العربي للأمن الفكري وضعف انتمائهم للوطن وإحساسهم بالضياع والاغتراب، وتنامي ضغوط قيادات التغرير عليهم لإضعاف إرادتهم وتوجيه عقولهم وزعزعة روابطهم الاجتماعية، لذا أصبح الشباب العربي أكثر شباب العالم تعرضاً لقيادات التغرير، ليس لكونهم يمثلون 63% من عدد السكان فقط، وإنما لأنهم أصبحوا أكثر تأثراً بالفجوة الفكرية وتراجع ثقافتهم وضعف وتيرة قراءتهم. قيادات التغرير وفئات التكفير وجدت في شبابنا العربي فريستها المثالية، لقلقهم النفسي المزمن، وتخبطهم الروحي والفكري المتلازم، وافتقارهم للوازع الوطني، وعدم الرضا عن أهداف الحياة، بسبب فراغهم وضياعهم. ولا شك أن هذه المرحلة الحرجة من تفكك بنية المجتمع الشبابي العربي تمنح قيادات التغرير الفرصة الذهبية لاقتناص شبابنا العربي دون غيره، وتنظيم قاعدتهم وضمان ولائهم.
ولأن شبابنا العربي يسعى اليوم للبحث عن الحقيقة الضائعة من خلال الفضائيات وشبكات العنكبوت، فإنه سيرتمي حتماً في أحضان الشك بمصداقية مجتمعه العربي، ويتصور مزايا الجهاد ويتوجه نحو ارتكاب جرائم الإرهاب باسم الدين والعقيدة.. وهذا ما يؤكد على ضرورة البدء فوراً في تعديل أساليب التعليم والأنظمة التربوية والثقافية في أوطاننا العربية، وتعزيزها بروابط العلم والمعرفة وسبل القراءة والثقافة ومهارات البحث والابتكار. ولا بد من نبذ وسائل الحفظ والتلقين والتقليد في مدارسنا وجامعاتنا التي أنتجت جيلاً من الشباب معزولاً عن العالم، ومشحوناً بالسلبية، ومتلقياً ومستهلكاً لمساوىء التقنية وعشوائيات العولمة وثقافة الخوف.. التراجع الثقافي وتردي مستويات التعليم في أوطاننا وراء التغرير بشبابنا.