كم بيننا من 'المستدعشين' والمتربصين والعنصريين المستثقفين، هم أول من سيتنكرون لمجتمعاتهم وقت حاجتها، وأول من سيشيحون بوجوههم عنها في محنتها، وأول من سيخرجون وجوههم القبيحة لها في أول اختبار حقيقي لما يحملون ويضمرون

سيبقى الخطاب التنويري في بعض جوانبه قيد الاحتلال، طالما هناك من لا يرغب في احترام أبسط حقوق اللغة ومعاييرها الأدبية والفكرية، وسيبقى مثل ذلك الخطاب مرهونا بمدى صدق وجدية محاولات فك الأغلال، التي تجعل من المستقبل المستنير أمراً بعيد المنال أو هكذا تصوره لغته الفاشلة.
ومن حسن الحظ أن اللغة لها عبقريتها العظيمة، ولها نبلها الكبير، الذي معه لا تستطيع تطويعها أكثر من طرفة عين، ولما كان لكل لغة خطابها الذي تعتمد عليه للتعبير عن نفسها، وجب أن نتعلم آلية وعبقرية تلك اللغة، للدخول معها في منافسة حقيقية لفك شفرات المستقبل، أو محاولة ذلك على الأقل، وليس شرطاً أن تكون تلك اللغة هي المنطوقة التي نعرفها، فكل شيء من حولنا في الواقع هو لغة بحد ذاته، وهذا المدخل سيذهب بنا إلى السيميائية إذا ما فتحنا المجال واسعاً، لكنني هنا سأقتصر الحديث عن اللغة المنطوقة المعروفة، وسأتحدث في مقال لاحق عن السيميائية وعالمها الكبير، فاللغة التي يحاول البعض إقحامها في قاموس الحوار العربي، ينقصها الكثير من التربية واللياقة قبل أن تكون لغة صالحة للتداول كما يريدون، وهي في النهاية لن تكون إلا ممثلة لأصحابها، أولئك الذين لا يألون جهداً في محاولة نشر أيديولوجيا مثل هذا الخطاب الضعيف المتهالك، الذي يلغي الذهنية والسلوك التربوي إلى حد بعيد.
على الرغم من دفاعهم الظاهر والمستميت عن الأخلاق والحرية والمساواة، فخطابهم في نهاية المطاف يقف أمام استفهامات وطيدة العلاقة بالعنصرية والإقصائية والأحادية، وهذا ما يجعله محل ريبة دائمة تهز الثقة في مضمونه، وهو هجوم على ذاته من غير أن يعلم ذلك، ومهما حاول أصحابه التخلي عن حقيقة مضمونه المريبة، فإنهم في الغالب يقعون في مأزق تبرير مآربه، ولا ينجحون في إيهام المجتمعات بالكامل من خلاله بما يحملون من الفكر المهزوم خيراً أو شراً..
وقد لاحظت في السنوات القليلة الماضية ظهور عدد لا بأس به من المتلبسين بالثقافة والدين والفضيلة، مقدمين أنفسهم على هيأة مثقفين أو دعاة أو محاضرين أو قوميين أو ليبراليين أو سياسيين، راسمين حول أنفسهم هالة الضوء المعتادة لديهم، التي باتت محل تندر اجتماعي عريض، بادئين في الطرح المتفذلك المخجل على العامة، وظانين بعمق تأثير خطابهم في الوعي الاجتماعي، ثم سرعان ما تكتشف الغائية المقيتة الكامنة خلف تلبسـهم ذاك، فيبدأ انهيارهم من الداخل قبل الخارج، ويبدأ الخطاب بالترنح حتى ليغالبك الضحك على ما اكتشفته بديهتك، التي يحـاولون الالتفـاف عليها بغباء المتكـبرين، ومن الطبيعي أن يحدث ذلك الانكشاف الجماعي، في ظل تنامي الانفتاح الاجتماعي وسرعة تبادل المعلومة والرأي، وهي نقاط لا تساعد على انتشار هذا النوع من الخطاب المتصيد ذي النوايا البائسة، ولو تصفحنا الإنترنت وحاولنا استفزازهم قليلا ستتضح الصور المضللة التي يحملها كثير منهم رويداً رويداً، وسيتساقطون أمام مرأى من العالمين واحداً تلو الآخر هكذاً، وتكشفهم المواقف في المحن شر كشف، وهذا ليس مستغرباً فالمضمون الهش لا يمكنه الصمود أبعد من حقيقة تكوينه، ولن يكون معبراً إلا عن صحيـح صلبه وبنائه، ومهما حاول القائمون عليه ترميمه أو تشذيبه، فإنهم في النهاية سيلفتون النظر إليهم في نهاية المطاف، وهذه إحدى الثغرات المحرجة لهم ولخطابهم المريض، ولقد ابتليت المجتمعات الإنسانية على الدوام بمثل هذا الخطاب الفاشل، وبمثل هؤلاء المنتحلين الذين يقفون خلفه، فكم بيننا من المستدعشين والمتربصين والعنصريين المستثقفين، هم أول من سيتنكرون لمجتمعـاتهم وقت حاجتها، وأول من سيشيحون بوجوههم عنها في محنتها، وأول من سيخرجون وجوههم القبيحة لها في أول اختبار حقيقي لما يحملون ويضمرون، فتباً له من خطاب بائس، وتباً لهم من مضللين.