الملاحظات الرقابية تصف الحالة فحسب، ولا تتطرق إلى عناصر اكتشاف النتيجة، وبالتالي لا نستطيع من خلالها اكتشاف المصاريف غير المناسبة أو اكتشاف عدم الالتزام بالأنظمة واللوائح والتعليمات المالية
طالب مجلس الشورى في إحدى جلساته، ديوان المراقبة العامة بإجراء دراسة تحليلية متعمقة عن أسباب وجذور تكرار المخالفات المالية في الجهات الحكومية المشمولة برقابته والحلول المقترحة لمعالجة هذه المخالفات، حيث لاحظ المجلس أثناء مناقشة التقرير السنوي للديوان، عدم وضوح الملاحظات ولا آليات معالجتها.
من الواضح من مطالبة مجلس الشورى للديوان؛ أن هناك غموضا في نوعية المخالفات المالية وأسباب تكرارها، حتى أن القارئ للخبر السابق يعتقد في البداية أن سبب تكرار المخالفات هو عدم وجود عقوبات رادعة للجهات الحكومية المخالفة، وبالتالي عدم اكتراثها لملاحظات الديوان وتوصياته، لذا تتكرر تلك المخالفات من عام إلى آخر! ولكن مطالبة الشورى في رأيي تتعلق بأسباب نشوء المخالفات المالية نفسها، ومن ثم تكرارها في سنوات لاحقة، ما يعني أن هناك مشاكل مالية إدارية لم تتم معالجتها تقف وراء أسباب هذه المخالفات.
وهذا بدوره يجعلنا نتساءل عن نوعية المخالفات المالية التي يكتشفها الديوان في الجهات الحكومية، وهل هي تشكل ظاهرة؟ وما أثرها المالي على الأهداف التنموية للدولة؟ وبعبارة أخرى: هل تلك الظاهرة تشكل عبئاً كبيراً على المال العام؟ وما نوع الدراسة التحليلية التي يطالب بها مجلس الشورى؟ وما دور الديوان والإجراءات التي اتخذها في سبيل الحد من هذه الظاهرة؟
في أدبيات المراجعة والرقابة، هناك فرق بين مصطلح الملاحظة والنتيجة الرقابية، والتي تتكون من أربعة عناصر رئيسة، والتي تعتبر الملاحظة جزءا من هذه العناصر وهي: (الحالة، المعايير، الأثر، السبب)، فالحالة هي بيان الوضع الفعلي الذي تمت ملاحظته من قبل المراقبين، والمعايير هي المقاييس التي تقارن بها الحالة أو الملاحظة، مثل الأنظمة واللوائح والتعليمات المالية، والأثر هو الاختلاف الناتج بين الحالة والمعايير، ثم يأتي عنصر السبب الذي يفسر لماذا وجد هذا الاختلاف، وقد تكون هناك أسباب متعددة لهذا الاختلاف، وهذا في اعتقادي ما يبحث عنه مجلس الشورى في مطالبته للديوان بإجراء تحليل متعمق للمخالفات المالية.
فإذا عرفنا المعيار، استطعنا فك لغز وغموض الملاحظات، وإذا عرفنا الأثر استشعرنا أهمية وخطورة المخالفات، وإذا عرفنا السبب استطعنا المعالجة والحد من الانحرافات، ولكن للأسف هذا النموذج من القياس المنطقي غير مستخدم في مجال الرقابة المالية، إذ يعتقد البعض أن هذا النموذج قاصر على رقابة الأداء فقط!
وللتوضيح أكثر، لنأخذ ملاحظات رقابية نشرت في الصحف المحلية، منها على سبيل المثال ما يلي:
1- التوسع في إجراء المناقلات بين أبواب وبنود الميزانية، وحسب تصريح ديوان المراقبة فإن ذلك يؤدي بشكل مباشر إلى تأخر تنفيذ العديد من المشاريع التنموية ذات الأولوية، فالحالة هنا: التوسع في المناقلات، والأثر هو: تأخر تنفيذ المشاريع التنموية، وعلى أساس منطق عناصر النتيجة، فأين المعيار الذي يخص هذه الحالة والذي يؤكد على وجود مخالفة مالية؟ وأين السبب الذي أدى إلى هذا التوسع؟ فهل كان النقل بسبب سوء التقدير لتكاليف المشاريع؟ أم أن هناك ظروفا نشأت وغيرت في أولويات التنفيذ؟ أم أنها حيلة من الجهات الحكومية للحصول على الاعتماد المالي وحسب؟ هذا من جانب. من جانب آخر، هل هناك تحديد للجهات الحكومية التي قامت بالتوسع في إجراء المناقلات؟ وما هي المشاريع التنموية التي تأخرت بسبب ذلك؟ وما هي التكاليف المالية المرتبطة بها؟
2- من ملاحظات ديوان المراقبة، استمرار نمو رصيد العهد بمبالغ طائلة، ويقضي النظام بوجوب تسويتها بعد انتهاء الغرض الذي صرفت من أجله في نهاية كل عام وعدم تدويرها لسنة أخرى، وذلك بالمخالفة لقواعد وإجراءات قفل الحسابات، وبقاء هذه الأرصدة الضخمة دون تحديد يحرم الخزينة العامة للدولة من أموال كبيرة كان يمكن توجيهها لمشاريع تنموية تسهم في تلبية احتياجات المجتمع.
الحالة هنا هي: نمو رصيد العهد، والمعيار هو: قواعد وإجراءات قفل الحسابات، والأثر: حرمان خزينة الدولة من أموال كبيرة، ولكن السبب في هذه النتيجة غير محدد وغير واضح، كما أن الحالة لا يوجد بها تفاصيل لأنواع العهد، فربما تكون هناك أسباب مختلفة لكل نوع، والأثر لم يحدد حجم الأموال، وإن تم تحديد مخاطر محتملة ولكنها تظل عبارة إنشائية لا تؤيدها أدلة واضحة.
فلو أخذنا على سبيل المثال (السلف المستديمة)، ففي الممارسة العملية يتطلب سداد السلفة تقديم مستندات الصرف مثل فواتير الشراء، ويعلم المراقبون أن الفواتير التجارية يسهل الحصول عليها وفي بعض الأحيان تكون غير قانونية، ناهيك عن شيوع المسؤولية عن السلف بين المحاسبين والمديرين في الفروع، وليس هذا فحسب، فقد تنشأ مشاكل رقابية بخصوص الحسابات البنكية المخصصة للفروع والمكاتب في الخارج.
هذا باختصار فيما يتعلق بتطبيق نموذج اكتشاف النتائج الرقابية في مجال الرقابة المالية، والتي تعكس في الحقيقة التحليل العلمي والمتعمق للملاحظات الرقابية، إلى جانب تقييم أنظمة الرقابة الداخلية على العمليات المالية، واستخدام أسلوب العينات الإحصائية في العمليات الرقابية بهدف معرفة العلاقات السببية، وبدون تطبيق هذا النموذج قد ندخل في ملاحظات رقابية جدلية وآثار زائفة ومخادعة ليس لها علاقة بالمخالفات المالية، والتي ربما ليست مخالفات وإنما إشكالات فنية نتيجة لتطبيق الأنظمة واللوائح في الواقع العملي.
فكما رأينا آنفاً، فإن الملاحظات الرقابية تصف الحالة فحسب، ولا تتطرق إلى عناصر اكتشاف النتيجة، وبالتالي لا نستطيع من خلالها اكتشاف المصاريف غير المناسبة أو اكتشاف عدم الالتزام بالأنظمة واللوائح والتعليمات المالية، ولا نستطيع تحديد عدم الكفاءة والتبذير أو الإسراف في المال العام.
بغض النظر عن نوع الرقابة التي تمارس، سواء كانت عن الالتزام المالي أو الكفاءة الإدارية والاقتصادية أو تقييم الأداء، فإن الهدف في جميع الحالات هو تحسين الإدارة المالية بالجهات المشمولة بالرقابة، وهذا لن يتسنى إلا بتطبيق الرقابة المهنية.