هناك حاجة ملحة لتطوير وتجديد منهجية الرقابة التقليدية السائدة، والاهتمام بموظفي الرقابة ودعمهم مادياً ومعنوياً، والمساءلة تبدأ من مناقشة الحسابات الختامية للجهات الحكومية في 'الشورى'

العمل في الإدارات المالية والحسابات بطبيعته روتيني وممل إلى درجة كبيرة، وتركيز الموظفين في هذه الإدارات ينصب على مطابقة البيانات الحسابية التي تتضمن بنودا ومفردات كثيرة، وإذا وجد فرق مالي بسيط أو تافه في التقارير المالية في بعض الجهات الحكومية فتتم مراجعة التفاصيل وإعادة النظر في كل ورقة وكل مستند حتى ولو كان الفرق (ريالين) فقط!
وعلى هذا الأساس تبدأ رحلة البحث عن أسباب وجود الفروقات المالية، ويبدأ الموظفون بمراجعة الأرقام رقماً رقماً وقراءة الأوراق والمستندات كلمة كلمة، وإعادة قراءة كل التفاصيل الدقيقة للبيانات الحسابية، وذلك من باب الحرص على المال العام! ورغم شدة الحرص هذه فإن البيانات الحسابية لا تخلو من أوجه الفساد والتحايل والتلاعب تحت مظلة المستندات الورقية النظامية من فواتير معتمدة واعتمادات صرف مكتملة التواقيع.
قد يكون هناك كثير من التبديد للمال العام وبمئات الملايين من الريالات، من خلال البيانات الحسابية التي يتم رصدها وجمعها، والاهتمام ينصرف فقط إلى اختلال التوازن في الإجمالي العام ولو بفارق (ريالين)! وقد يكون هناك تشويه متعمد للبيانات والدفاتر والسجلات والتقارير المالية وغيرها، وذلك بإدراج بيانات غير صحيحة، أو التلاعب في المستندات وتزويرها، أو قيد بعض العمليات الوهمية.
ثم بعد ذلك يأتي دور الرقابة التي قد تكون خارج الإطار الحكومي كمؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام ومجلس الشورى، وقد تكون داخل النظام الحكومي في سلطاتها المختلفة وأجهزتها الرقابية والتي تتمثل في مراحل ثلاث من حيث الترتيب الزمني، فهناك الرقابة المسبقة (وزارة المالية)، والرقابة المصاحبة (وحدات المراجعة الداخلية)، والرقابة اللاحقة (ديوان المراقبة العامة).
وبالنسبة للرقابة خارج الإطار الحكومي فإن مجلس الشورى لا يراجع ولا يناقش الحسابات الختامية والتقارير المالية للجهات الحكومية، وإنما يناقش فقط التقارير السنوية لهذه الجهات حسب المادة (15) من نظام المجلس والتي تنص على أن يقوم بـمناقشة التقارير السنوية التي تقدمها الوزارات والأجهزة الحكومية الأخرى، واقتراح ما يراه حيالها.
وبالطبع فإن التقارير السنوية للجهات الحكومية لا تتضمن في الغالب أية معلومات مالية، وإنما هي عبارة عن تضخيم للمنجزات وإحصاءات غير دقيقة لا يستطيع المجلس التأكد من مصداقيتها، وبالنسبة للتقرير السنوي لديوان المراقبة العامة فإن المجلس يناقشه على أساس أن الديوان كغيره من الجهات الحكومية الأخرى التي يتوجب عليها تقديم تقريرها السنوي للمجلس.
أما بخصوص الإعلام فهناك ضعف في الاهتمام بالقضايا المتعلقة بإدارة الموارد المالية (الموازنات، المنافسات والمشتريات الحكومية)، بالإضافة إلى النقص الحاد في الصحافة التحقيقية والتي تعد من أهم الوسائل للتحقق من أنشطة وخدمات الجهات الحكومية وكشف سوء الإدارة والفساد، ناهيك عن النقص في تشريعات حق الوصول إلى المعلومات وانعدام الشفافية.
أما فيما يتعلق بالرقابة داخل النظام الحكومي في جميع مراحلها (السابقة والمصاحبة واللاحقة) فإنها تتمثل في التدقيق المستندي الشكلي، حيث يتم التأكد فقط من نظامية الصرف على سبيل المثال من حيث المسوغات واعتماد أصحاب الصلاحية، الذين هم في الأساس المسؤولون عما يترتب على قراراتهم المالية والإدارية، وبالتالي فإن المراقب تكون مسؤوليته مسؤولية ورقية مستندية، فهو لا يعلم ما يحصل في واقع الميدان والتنفيذ!
وبسبب الرقابة التقليدية السائدة نجد وجود ضعف في أنظمة الرقابة الداخلية على الأعمال المالية في العديد من الجهات الحكومية، مما تسبب في وجود عمليات مالية ومحاسبية مشبوهة وغير مشروعة بالإضافة إلى غياب المساءلة والردع، وكل ذلك من مسببات الفساد الإداري، الأمر الذي قد يؤدي إلى جعل ممارسة الفساد ظاهرة عادية يتعذر علاجها.
فغياب عملية المساءلة وانعدام الشفافية وروتينية الرقابة التقليدية تعطي الفرصة لظهور ونمو الفساد، ويرى أحد الباحثين أن الأسباب الرقابية للفساد الإداري تتمثل في انشغال الجهات الرقابية بصغائر الملفات مع صغار الموظفين، وتغاضيها عن كبار الموظفين أو ملفات المسؤولين، واستثنائها لبنود أو جهات أو مستويات وظيفية من الرقابة، مما يجعل ذلك مجالاً خصباً لممارسة الفساد.
بالإضافة إلى ما سبق هناك عدم استقلالية لموظفي الجهات الرقابية وتعرضهم للتدخلات السافرة من السلطات الإدارية داخل هذه الجهات نفسها، فعلى سبيل المثال تقوم الإدارة العليا بالحذف أو التعديل في التقارير الرقابية، وإن اعترض عليها الموظف فتتم إحالته إلى التحقيق ومن ثم نقله إلى وظيفة إدارية بيروقراطية، فالمطلوب أغمض عينيك واتبعني.
بالإضافة إلى خنق المراقبين ماليا من خلال التضييق على حوافزهم المالية والمكافآت التي أقرتها الأنظمة واللوائح، مما يجعلهم عرضة للمساومة وشراء الذمم، ناهيك عن عدم توفير الحماية اللازمة على اختلاف أشكالها لهم، كما لا تتم الاستفادة من أفكارهم ونظرتهم إلى جوانب العمل الرقابي، وعدم احترام مقترحاتهم التي تكون قريبة أكثر إلى الإهمال والتسفيه.
وخلاصة القول أن الجهات الرقابية المتخصصة ومجلس الشورى والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني تقع عليها جميعاً مسؤولية كشف حالات الفساد والمساءلة فيها وعلاجها وتقديم الحلول والبدائل للمشاكل والانحرافات تجنباً للتكرار، فالرقابة تعدّ إحدى دعامات المحور العلاجي في استراتيجية مكافحة الفساد المالي والإداري والمتمثلة في إصلاح الخطأ والخلل وسد الثغرات ورفع مستوى كفاءة الأداء الحكومي.
ولهذا هناك حاجة ملحة إلى تطوير وتجديد منهجية الرقابة التقليدية السائدة، والاهتمام بموظفي الرقابة ودعمهم مادياً ومعنوياً، والمساءلة تبدأ من خلال مناقشة الحسابات الختامية للجهات الحكومية في مجلس الشورى بعد المصادقة عليها من قبل ديوان المراقبة العامة، مع تعزيز وتفعيل الشفافية من خلال الوصول غير المقيّد إلى معلومات موثوقة وآنية حول القرارات الإدارية والأنشطة والخدمات الحكومية، ولا يمكن أن تتحقق الشفافية إلا إذا كانت هناك جهات تسعى إلى الكشف عن الحقائق وإطلاع الناس عليها، وهو ما تقوم به وسائل الإعلام المختلفة.