القول باستحالة الموضوعية قول مطروح وقديم يرتكز على أن الإنسان بالضرورة منحاز. في لب هذا الاعتراض شيء شبيه بكون الحياد شرطا ضروريا للموضوعية. الحياد في المسائل الأخلاقية، أو في غالبها على الأقل متعذر

هذا المقال امتداد لنقاش تويتري افتتحه الصديق طلال العجمي متسائلا عن العلاقة بين الموضوعية والحياد. هل الموضوعية تستلزم الحياد أو هل يعني الحياد الموضوعية بالضرورة؟

هذه الإشكالية حقيقية وجزء من التجربة الواقعية لكثير من الناس، خصوصا حين يواجهون قضايا أخلاقية مهمة كقضايا العدالة بشكل عام، أو قضايا دقيقة كقضايا الإجهاض والإعدام والحريات الفردية.

على سبيل المثال هل يعني نقاش قضية الإجهاض بموضوعية أن يتبنى الباحث موقفا محايدا من البداية تجاه هذه القضية؟ هل هذا شرط ضروري للموضوعية؟ هنا تبدو الموضوعية وكأنها تتطلب إنسانا بلا مواقف أو انحيازات مما يجعلها أقرب للاستحالة. القول باستحالة الموضوعية قول مطروح وقديم يرتكز على أن الإنسان بالضرورة منحاز. في لب هذا الاعتراض شيء شبيه بكون الحياد شرطا ضروريا للموضوعية. الحياد في المسائل الأخلاقية، أو في غالبها على الأقل متعذر فالبشر بطبيعتهم كائنات أخلاقية تتحرك بناء على تصوراتهم للخير وللشر.

محاولتي هنا للمشاركة في هذا النقاش تتأسس على فحص معنى ودلالات مصطلحي الموضوعية Objectivity والحياد Neutrality.

في البداية، يبدو أن الموضوعية هي وصف لطريقة محددة في التفكير، فيما الحياد هو موقف أو نتيجة لتفكير في موضوع معين. مثلا حين نقول إن فلانا موضوعي في موضوع الإجهاض، يبدو أننا نعني أن فلانا يبحث في موضوع الإجهاض بطريقة موضوعية. الإحالة هنا إلى منهج البحث. كذلك حين نصف موقف فلان بأنه موضوعي، فإننا نقصد أن هذا الموقف تم الوصول له بطريقة موضوعية بغض النظر عن طبيعة هذا الموقف. بمعنى أننا نستطيع أن نصف موقف فلان من الإجهاض بأنه موضوعي سواء أيد أو رفض الإجهاض. النتيجة هنا غير مهمة المهم هو المنهج الذي تم استعماله للوصول إلى النتيجة.

الموضوعية هنا تشير إلى الإجراء أو المنطق الذي تم التفكير من خلاله. في المقابل يبدو أننا حين نصف فلانا بالحياد في قضية معينة فإننا لا نتحدث عن الآلية التي وصل من خلالها إلى الموقف بقدر ما نتحدث عن النتيجة التي توصل إليها. فلان محايد تجاه قضية الإجهاض بمعنى أنه ليس لديه قول محدد في هذا الموضوع، وبالتالي فإنه لا يدخله ضمن حسبته الأخلاقية في التعامل مع أصحاب هذه المواقف. هذا الموقف المحايد قد يتم الوصول إليه بطريقة موضوعية أو بغيرها. الباحث الموضوعي قد يقارن الأقوال المعارضة والمؤيدة ولا يجد مبررا لترجيح أحدها على الآخر؛ ولذا يتخذ موقفا محايدا.

في المقابل قد ينطلق الفرد من فكرة عدم الاكتراث بالقضايا الأخلاقية، وبالتالي يتخذ موقفا محايدا من الموضوع. إذا كان التحليل السابق صحيحا فإنه ليس كل محايد موضوعيا وليس كل موضوعي محايدا.

مما يؤيد التحليل السابق أن الحياد دائما علائقي. أي يشير إلى علاقة مع شيء آخر. أي أنه يعبر عن موقف من قضية معينة. لا يوجد حياد مطلق.. هذا شبيه بالعدم. الحياد بطبيعته حياد تجاه قضايا معينة. نقول إن الدولة القانون مثلا محايدة تجاه الأديان في الدولة العلمانية. هذا يعني أن الدولة لا تدخل دين الفرد في حسبتها في التعامل معه. بهذا المعنى هذه العبارة الدولة المحايدة لا تعني شيئا؛ لأن الدولة جهاز يتخذ قرارات لأطراف تجاه أطراف أخرى يوميا. في المقابل الموضوعية ليست علاقة بقدر ما هي آلية عمل ومنطق للتفكير. يمكننا القول مثلا إن العالم الفلاني مثلا يعمل بشكل موضوعي. أو يعمل بشكل موضوعي إلى درجة كاملة إذا كان يعمل بناء على معايير غير خاضعة لميوله المباشرة ومشاعره وانفعالاته الآنية.

بهذا المعنى يمكن أن نرسم الصورة التالية لعملية التفكير أو البحث المعرفي. المرحلة الأولى هي مرحلة التساؤل وفيها يتم تعليق الأحكام والإجابات. السؤال نابع عن جهل وإحساس بضرورة البحث عن إجابة. هذه المرحلة تستمر كطاقة للمرحلة الثانية وهي مرحلة البحث والتفكّر. في هذه المرحلة يمارس الباحث الجاد منهجا موضوعيا للإجابة عن السؤال السابق.

المنهج الموضوعي يعني ألا يتحرك البحث وفقا لرغبات ذاتية، بل يتم إخضاعه إلى معايير خارجية لها اعتبار عند جماعة معرفية ينتمي لها الباحث. المرحلة الثالثة هي مرحلة القرار والإجابة والتي يمكن أن يكون الحياد نتيجة لها. مثال على هذه الصورة حين يقرر الباحث مثلا البحث في مسألة الإعدام. في البداية يفترض أن تكون الحالة أن يعلق الحكم على القضية حتى وإن كانت لديه أحكام سابقة فإنه يعلقها حتى إتمام البحث. بعد ذلك يختار الباحث منهجا للبحث يناسب طبيعة البحث الذي يريد إجراءه؛ لكي يكون هذا المنهج موضعيا فإنه يجب أن يكون من ناحية المبدأ هناك إمكان لإجابات متناقضة. بمعنى أن المنهج الموضوعي يجب أن يحتمل أن يؤدي إلى النتيجة ونقيضها. إذا كان يقرر من البداية استبعاد نتائج معينة فإن موضوعيته تعاني من إشكالية. المرحلة الثالثة يقرر الباحث موقفه من الإعدام. هذا الموقف له احتمالات كثيرة منها أنه مؤيد أو معارض أو محايد بمعنى أن يعد مثلا قضية الإعدام خارج حساباته الأخلاقية، وأنها يجب أن تحسب اقتصاديا من خلال موازنة تكلفتها على المال العام.