في حين لعبت بعض المجلات الثقافية والأدبية السعودية التي برزت في ثمانينات القرن المنصرم، أو ما عرف نقديا بـمرحلة الحداثة دورا كبيرا في نشر إبداعات كثيرة لشعراء وقاصين وروائيين كثر، أعادت الوطن ذاكرة عدد من رموز إعلام تلك المرحلة، إلى الوراء لاستحضار أبرز العوامل المؤثرة في الإعلام الثقافي في تلك المرحلة، وحاولت البحث في أسباب اختفاء الكثير من المجلات والإصدارات الثقافية التي كانت تمثل ساحة نقاش كبيرة بين عدد من التيارات. واليوم يتحدث لنا الشاعر محمد جبر الحربي عن تجربته وزملائه في إصدار ملف أصوات الإبداعي الذي كان يصدر عن مجلة اليمامة، ويميط اللثام عن أسباب توقفه مبكرا، معللا ذلك، بـالنجومية التي حظي بها مع صنوه ملف الطفل الذي كان يعده سعد الدوسري.
حضور مختلف
تجمع لملف أصوات مجموعة فريدة من الأصوات أورد بعضها للمثال لا الحصر: كعبدالرحمن الدرعان، عبدالرحمن موكلي، تركي الناصر السديري، ليلى الأحيدب، عبدالعزيز السويد، عبدالرحمن السعد، يوسف المحيميد، محمود تراوري، هدى الدغفق، هاشم الجحدلي، عواض العصيمي، عبدالمحسن يوسف، عبده خال. وساهم في إلقاء الأضواء النقدية عليه مجموعة كبيرة من النقاد منهم د. سعد البازعي، د. محمد الشنطي، فائز أبا، د.عالي القرشي، د. سعيد السريحي، علي الدميني.. وكان يساعدني في قراءة القصص وتقديمها الصديق المبدع سعد الدوسري. وقد نمت مع الملحق تجربة فريدة أخرى، وهي قراءة الأصوات لأصواتها كما فعلت ليلى الأحيدب، وغيرها.. جاء البريد بالإبداع من فرسان، وضمد، وجازان، وطبرجل، وثول، وبريدة، وحائل، والقطيف، والقريات، والخرج، والباحة. جاء من كل من مكان دون واسطة ولا مقدمات وكان الشرط الوحيد للنشر هو الرغبة في الإبداع والتغريد. لقد كان ملف أصوات على رغم صغره، كبيراً في طموحاته، جريئاً في لغته وطروحاته.
بريد القراء
تعلمت في مدرسة اليمامة الصحافة من الألف إلى الياء. ونَمَت فيها شجرة الحب.. حب الوطن ..حب الناس، معرفة مشاكلهم وتطلعاتهم، وعدم إهمالِ بريدهم، فلم أهمل رسالة من قارئ طوال عمري، ومن هنا نشأت فكرة «أصوات».. من هنا حلّقت الأصوات في سماء الإبداع. ما تأسست هيئة استشارية، ولا انبثقت لجان، ولا رُشّح أعضاء، ولا اعتمدت ميزانية. ما عقد اجتماع ولا أرجئ، ولا قرر مؤتمرون، ما صدر بيان، ولا وزِّعت جداول، ولا رشَحت نتائج: كل ما حصل أن البريد قد فاض على الصفحات الثماني المخصصة للثقافة، فجمعته، مع تصور لملحق غير دوري يعنى بالإبداع الجديد، ويصدر كلما سمح البريد، فقد كانت هناك فورة ووفرة في الكتابة الجديدة.
صدام على كل الجبهات
اختار الملف صورة قاتمة لجندي من جنود العدو الإسرائيلي غلافاً لأحد أعداده، ومما جاء في الافتتاحية: لقد اخترنا غلافنا هذا، لكي لا ننسى أننا مهدّدون، وأننا لا بد أن نقاتل، وعلى كل الجبهات. وأن هذا هو خيارنا الثقافي.. وفي أقصى حالات الأمة حرجاً، كان الدفاع لا عن الكيان، بل عن عمود الشعر. وكان الاصطدام لا مع الخارج العدو، بل مع الداخل: العمود/ التفعيلة/ النثر/ القصة/ القصيدة/ اللاشكل/ الواقعي/ البنيوي..، أو لربما كانت شاهدة القبر التي كتب عليها حنظلة ناجي العلي: أنا أفكر، إذن أنا موجود التي نشرها الملف، دليلاً آخر على وعي ثاقب مبكر لدى الملف، ولربما كانت وعياً كذلك بالمصير المحتوم الذي سيواجهه، وهو التوقف المبكر.
جهد جماعي
وافق الدكتور فهد الحارثي، على إصدار أصوات وصدرت منه 3 ملفات غير دورية، الأول منها في 13 رمضان 1406هـ، ثم أصبح ملفاً شهرياً يعنى بأدب الشباب منذ 17 ربيع الأول 1407هـ، ووضع التصميم الإخراجي له منذ العدد الثاني الصديق الفنان أسعد شحادة، وساعدني على تعبه، وإخراج كامل إعداده الزميل والصديق الخلوق المخرج حسن خزعل، وبقية الزملاء في القسم الفني. والحقيقة أن الملف الذي قرّر، وببساطة، الغناء دون مقدّمات في الملف الأول «مجموعة من الأصوات الشابة تمسك بمفاتيح الغناء، وتحاول المشاركة في عزف النغم الخالد»، قد أصبح خلال فترة وجيزة قائداً لأوركسترا الإبداع الجديد في المملكة. لا بل صار مطلباً ملحّاً لمبدعين معروفين في الساحة، يفضلونه للنشر على الصفحات الثقافية كمحمد علوان، وعبدالله باخشوين وعلي الدميني على سبيل المثال. جمع الملف فرادة الضوء واللون، التشكيل والتصوير، الشعر والقصة والكتابة الحرة. الأصيل والجديد، الكلاسيكي والحديث، العمود والتفعيلة والنثر.
توقف إجباري
أوقف ملف أصوات مع صنوه ملف الطفل، التجربة الصحفية الناجحة للزميل سعد الدوسري لإنشاء صحافة طفل مميزة مغايرة. كان السبب الظاهر الذي سمعناه لإيقافهما هو أن نجومية الملفين، أو غرق المشرفين عليهما في بحر النجومية، أدى إلى إغفال صفحات اليمامة الأساسية، أو المطبوعة الأم، وكان ذلك مبرراً كافياً، وهذا ما تمّ.
والحقيقة أن الملفين كانا نجمين بكل معاني النجومية. أما صاحباهما فلم يكونا ليضعا اسميهما وإن كان من حقهما على جهدهما وعرقهما. فلقد اكتفيت بوضع اسم أصوات أو محمد الحربي، أو م/ح في ذيل الصفحة الداخلية، واكتفى سعد الدوسري بمجد الصحافيين الصغار أنفسهم. المهم أن تجربة جميلة مميزة انتهت، بعد أن أثْرت، وأثَّرت، وتركت علامة فارقة في العمل الصحفي الثقافي المحلّي رغم قصر عمرها.
ولكن لا يخفى على المطلعين أن مجلة اليمامة واجهت ضغوطاً، بل حرباً كبرى شنها مدعو الإصلاح على المجلة من الغلاف إلى الغلاف وفي مقدمة ذلك الثقافة وملحق أصوات، كما حاربوا كل جديد وحديث في تلك الفترة، ومن ذلك الدش، على سبيل المثال، الذي حرّموه، ثم أصبحوا نجوماً في القنوات الفضائية، ثم دخلوا في سوق القنوات الفضائية الرائج!
لكن التحديث استمر، وأينعت شجرة الثقافة الجديدة، عبر نوافذ وأدوات وأخرى، واكتظ الفضاء بالجديد المفيد لمن يريد حقاً أن يبنيَ ويفيد.
واستمر شباب ملف أصوات ونقاده في تقديم إبداعهم الجديد، ونالوا الجوائز المحلية والعربية والعالمية، ونجحوا في رسم صورة جميلة ورائدة للثقافة في المملكة.
وما زالوا منتجين فاعلين بفضل الله حتى يومنا هذا.
كان ما كان.. لكن الشباب فتحوا نوافذ جديدة، وظلت أصواتهم الجميلة تغرد إبداعاً تشاركهم فيه أجيالٌ جديدة من المبدعين والمبدعات.