الأحباب والأصدقاء كالمرايا، في كل واحدة منها صورة خاصة بها، وحين تغيب مرآة واحدة فإن الصورة التي فيها غابت معها. كل ما رحل صديق رحلت نسخة منا معه، وحين يرحل الأصل فإن كثيرا من أصدقائه يرحلون معه
يحدث كل يوم مثلما الولادة تماما، لا نراه غريبا إلا حين يرانا، يمر بجانبنا فيأخذ معه أحد أحبابنا، نتحلق حوله بأحزاننا كما نتحلق حول الولادة بسعادتنا، لكنه يمضي صامتا ومعه أحدنا، ونعرف أنه سيعود مرارا وسيأخذنا في إحداها. إنه لا يترك لنا إلا فرصة وحيدة هي التآلف معه والقبول به، وأحيانا الاشتياق إليه لينقلنا للضفة الأخرى حيث يتزايد هناك أحبابنا كل يوم، ولقد انضم إليهم مؤخرا صديقانا محمد البريدي وجاري في هذه الصفحة عبدالرحمن الوابلي.
كل ليلة نجرب الموت هو الذي يتوفاكم بالليل فما من سبب لخوفنا منه أو التساؤل عنه، فهو الدليل الحقيقي على أننا عشنا هذه الحياة.
الموت كالولادة، خطوة باتجاه الحياة، الحياة الخالدة التي لا تفصلنا عنها إلا غفوة خفيفة كتلك التي عاشها الجنين وهو ينزلق من بطن أمّه ليجد نفسه بين أيدي محبيه الرحيمة.
منذ البدء كنا خالدين داخل لحظة غفوة أفقنا منها على ضحكات أهلنا هنا في هذه الدنيا، وسنغفو مرة أخرى لنفيق منها على الخلود المطلق بين يدي أرحم الرحماء.
لكل واحد من أحبابنا نسخة أصلية منا، لي نسختي الخاصة من كل صديق لي، تختلف عن تلك النسخ الأخرى منه عند الآخرين، نسخته عند أمه وأبيه وزوجته وكل واحد من أصدقائه، وحين أموت تموت معي نسخة من كل صديق لي. وحين يموت أحد أصدقائي فإن نسخة مني تموت معه. ولذلك فحزننا على فراق أحبابنا إنما هو حزن على أنفسنا التي فارقتنا بفراقهم.
الأحباب والأصدقاء كالمرايا، في كل واحدة منها صورة خاصة بها، وحين تغيب مرآة واحدة فإن الصورة التي فيها غابت معها. كل ما رحل صديق رحلت نسخة منا معه، وحين يرحل الأصل فإن كثيرا من أصدقائه يرحلون معه.
أنا عند زوجتي لست أنا عند أمي، وأنا عند أخي لست أنا عند جاري، وأنا عند زميلي لست أنا عند صديقي، وحين يموت أحدهم أموت أنا معه، ولذلك أحزن عليه، ليس للحزن على الراحلين تفسير عندي إلا هذا. حين وهبنا الله تعالى هذه الحياة وزينها لنا بالأحباب والأبناء والآباء والأمهات أخبرنا أنها قصيرة وأنها ليست إلا دنيا قصيرة وأن الحياة الحقيقية هي وراء الغفوة التالية.
لو عاش أي منا مئة عام أو مئتين فهل هي كافية ليشبع من أحبابه؟ كلا. إنها قصيرة، مهما امتدت، ولا تكفي لأن تطبع قبلة كاملة على يد أب أو قدم أم، إنها ضيقة ولا تكفي لأن تقول لحبيبتك كلمة نهائية مثلأحبك، ولا تكفي حتى لأن تملأ روحك بضم ابنك لصدرك أو لإشباع متعتك وأنت تراقبه وهو يحمل حقيبته للمدرسة كل صباح.
هذه الحياة غير كافية لأن تتحدث مع أمك حديثا لا تحتاج بعده لحديث، ولا أن تفعل بعض ما تود أن تفعله لأختك وابنتك. هذه الأشياء لا يتسع لها إلا الخلود، هناك، حيث لا زمن يقف بينك وبين تحقيق مشاعرك القصوى في كرم بلا نهاية.
أعجب من قسوة قلوب الذين يلحدون ويكفرون بالآخرة، فالآخرة لو لم نؤمن بها ديناً لوجب أن نؤمن بها حلما وأملاً، لنلقى فيها أحبابنا ونجد القدرة على حبهم بشكل غير منقوص.
سنحزن كثيرا للفراقات كل ما مرّ الموت بجانبنا، هذا من شأن الدنيا، ولكن لنطمئن أن الذي أكرمنا بأحبابنا هنا هو أكرم من أن يحرمنا منهم هناك.
الحياة لم تبدأ الآن ولا تنتهي بهذه الغفوة التي نسميها الموت.
كل الأولى رحلوا كانوا لنا فرحا
كانوا لنا العيد إذ كنا لهم عيدا
كانوا المرايا لنا، غبنا بغيبتهم
من كان للقدر المرصود مرصودا؟!
لا آه إلا ومن عمري نزفت لها
آهٍ على العمر، كم في آهة صِيدا!