الخصخصة برنامج ناجح في حد ذاته إذا تم تنفيذه بمعايير مُقننة، ومشروع وطني طموح للاستثمار في التعليم وغيره، وسيكون مردوده أكثر إيجابية ونفعاً، إذا ما تم دعمه رسمياً من قبل وزارة التعليم

وبعد سنوات عجاف أعلنت وزارة التعليم عجزها وإفلاسها الفكري والمهني في تطوير التعليم والنهوض به من كبوته التي ألمت به لسنوات في جميع ما تتضمنه منظومة التعليم، سواء في إطارها المؤسسي أو المهني أو العلمي والفكري. وإذ يعتبر التعليم من أحد أهم المعايير الثلاثة الأساسية التي يتم من خلالها تصنيف دول العالم في دليل التنمية البشرية الصادر من الأمم المتحدة، إلى جانب الصحة ومستوى دخل الفرد من الناتج القومي، وغير ذلك من المؤشرات الهامة التي تعكس المستوى التنموي للدول ومدى تجاوبها في تفعيل وتحقيق أهداف التنمية البشرية وغاياتها المأمولة ضمن مؤشراتها الدولية، فإننا نعتز بفضل من الله أن المملكة ما زالت ولعدة سنوات يتم تضمينها مع الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة جداً، بل واحتلت المرتبة الـ39 في سلم دليل التنمية البشرية في تقرير التنمية البشرية الدولي لعام 2015، وذلك كثاني دولة عربية بعد قطر التي احتلت المرتبة الـ32، في حين احتلت الإمارات العربية المتحدة 41 من الدول في نفس المرتبة من التنمية البشرية.

تتضمن منظومة التعليم في هيكلها ومضمونها العام جانبا مؤسسيا بما تحتويه من نظم وسياسات وتشريعات وقوانين ونظام عمل لإدارة العملية التعليمية، بما يتفق والسياسة العامة للدولة وأهدافها التنموية التي تسعى إلى تحقيقها، في حين يتضمن جانبها التعليمي والفني، المناهج بمضمونها ومستواها العلمي وجودة إخراجها وكفاءتها ومدى توفرها، إلى جانب التدريب والتأهيل لجميع من تشملهم العملية التعليمية (معلم، طالب، مدير، إداري، مشرف إلخ..)، وآخراً الجانب الإداري والمالي، ذا الصلة بالموارد البشرية والمنشآت المادية ونفقاتها من مبان وما تحتويه من خدمات ملحقة بالبنية التحتية الأساسية للمباني المدرسية ومرفقاتها.

  وبالإشارة إلى ما تم تداوله ونشره مؤخراً منسوباً إلى وزارة التعليم، حول توجهاتها الجديدة نحو تخصيص عدد من المدارس الحكومية إلى مدارس مستقلة يتم تشغيلها من قبل مؤسسات اقتصادية صغيرة ومتوسطة، من خلال إشراك القطاع الخاص في تمويل وتشغيل المدارس الحكومية للقضاء على المدارس المستأجرة وتطوير نماذج جديدة للمباني التعليمية، وأن يقوم على تأسيسها التربويون العاملون حالياً في الحقل التعليمي. فإننا نتساءل هل كانت مشكلتنا في تطوير التعليم المباني المستأجرة فقط؟! وهل مجانية التعليم للمواطنين أثبتت فشلها؟! وهل المدارس الخاصة أثبتت جدارتها؟! هل تستطيع الطبقة الوسطى التي تمثل النسبة الغالبة في المجتمع دفع تكاليف التعليم الخاص؟! وإذا لم تستطع فئة كبيرة من المواطنين دفع تكاليف أبنائهم وبناتهم، وامتلأت المدارس الحكومية المجانية أين يذهبون؟! وهل هناك مراقبة ومتابعة لمستوى أداء المدارس الخاصة التي أفحشت في تكاليفها دون تقديم خدمات مكافئة في الخدمات والأداء والمخرجات؟ وذلك على الرغم من كونها تظل خيارًا متاحاً ومطلوباً لطبقة مقتدرة نسبياً في المجتمع لأسباب مختلفة، وليست لأنها الأفضل علمياً في كثير من الأحيان.

ومن جهة أخرى نجد أن الجانبين التعليمي والفني، وبمضمونهما ذي الصلة بالمناهج وتطويرها ما زال في الأيدي الأمينة ذاتها التي حملته سنوات ولم تطرح ثمراً، وليس القصد أن يتم تخصيص ذلك بالطبع، ولكن كان الأهم في ذلك التحول هو تطوير المناهج الصفية واللاصفية ونوعية ومستوى مضمونها وأهدافها، ومدى مواءمتها لمستلزمات العصر المعرفي المتغير من جهة، ومدى نجاحها في إخراج كفاءات وطنية قادرة على التعامل مع البيئة والمجتمع الذي تنتمي إليه من جهة أخرى، هذا علاوة على ما تتطلبه العملية التعليمية في تلك المراحل من تطوير مساراتها ما بين الإعداد الجيد للمرحلة الجامعية والتهيئة لها معرفيًا، أو التنوع في مسارات الدبلومات المختلفة المتخصصة التي تمثل مرحلة دون التعليم الجامعي، ويمكن من خلال مخرجاتها توفير كمّ كبير من المواطنين المؤهلين، ذوي التعليم دون الجامعي في مجالاته المختلفة لكونهم يمثلون البنية الأساسية لتنمية المجتمع كما هو سائر في معظم دول العالم.

يمثل التحول المعرفي والتقني المادي والبشري، الجانب الأهم من المعادلة في تطوير التعليم ومنجزاته، بعد أن استمر كإشكالية أساسية أعاقت تقدم التعليم وتطويره، إذ إن عدم مواكبة كثير من المقررات للتقدم العلمي والمعرفي المعاصر وحشوها بالمعلومات المتكررة ورتابة تقديمها، بالإضافة إلى الارتقاء بأداء المعلمين وتدريبهم وتحسين أدائهم يعتبر عاملاً محورياً في العملية التعليمية، يضاف إلى ذلك أهمية توفير المرفقات والخدمات الملحقة بالمدارس بمستوى يؤهلها لخدمة العملية التعليمية ومنسوبيها سواء كانت ساحات أو دورات مياه أو معامل أو كافتريات (مقاصف مدرسية) أو ملاعب رياضة، وغير ذلك من متطلبات المدارس ومرفقاتها، والتي يفتقدها كثير من المدارس الحكومية والخاصة كبيئة جاذبة ومشجعة وصالحة للدراسة.

وإذا كان توظيف المعلمين والمعلمات سيكون من مسؤوليات القطاع الخاص كجهة تشغيلية مسؤولة، فإنه لا بد أن تُحكم العملية بمستوى أجور لائق، ونصاب تدريسي متوازن، وتدريب مستمر لكافة الكادر التعليمي والإداري، وبذلك نضمن جودة وتحسينا في الأداء وبالتالي المخرجات، وحبذا لو تم توجيه القطاع الخاص باعتباره الجهة المشغلة للمدارس، بأهمية استثمار تلك المنشآت في الإجازات الصيفية لتكون مقراً لدورات مختلفة وأنشطة ومسابقات رياضية ونشاطات فكرية ومهنية وحرفية مختلفة لجميع الطالبات والطلاب، وبأسعار رمزية بحيث تسهم في تكاليفها وزارة التعليم مشاركة مع القطاع الخاص المسؤول، وبما ينعكس إيجابًا على استثمار أوقات الفراغ الطويلة، بفائدة يستفيد منها جميع الأطراف، وأن يُدعم ذلك بحملات توعوية وترغيب في تلك النشاطات، بما يحقق استثمارا أفضل لطاقات مادية وبشرية مهدرة لبضعة أشهر من السنة، واحتواء متنوعا ومثمرا للطلاب في مرحلة هامة من أعمارهم تُبنى فيها شخصياتهم وثقافتهم، وتحصينهم من فراغ قاتل ومدمر إذا لم يُحسن توجيهه وإدارته تربوياً واجتماعياً.

الخصخصة برنامج ناجح في حد ذاته إذا تم تنفيذه بمعايير مُقننة، ومشروع وطني طموح للاستثمار في التعليم وغيره، وسيكون مردوده أكثر إيجابية ونفعاً، إذا ما تم دعمه رسمياً من قبل وزارة التعليم سواء في المتابعة والتقييم المسؤول، أو في مستوى أجور المعلمين والمعلمات، أو في تأمين الأقساط المطلوبة، أو جزء كبير منها لجميع الطلبة والطالبات الذين تشكل التكاليف عبئًا إضافياً عليهم في أعباء المعيشة، وأن يتم ذلك من خلال إجراءات ميسرة، كما يمتد الدعم ليشمل جميع النشاطات اللاصفية وخلال الإجازات، وبذلك يمكن أن نقول إن هناك إنجازا في الخصخصة وتطويرا للتعليم، واستثمارا مجزيا لمواردنا البشرية والمادية.