لا أعرف كيف ومتى أصبح من لوازم حب الوطن والاعتداد به الانتقاص من الآخرين، والإساءة لهم بشكل يخالف الدين والأخلاق والعادات والقيم السعودية الأصيلة، من كرم وشجاعة ومروءة وحسن ضيافة

الوطنية.. مصطلح يفترض أنه يرمز لكل جميل في حياة الإنسان، فهو يشمل حب الإنسان الفطري لأرضه وأهله ووطنه وتاريخيه وثقافته ومقدساته. وقد علمونا في ما مضى أن حب الوطن من الإيمان، وبالتالي فإن الذود عنه والموت في سبيل حمايته ورفعة شأنه بطولة، بل وأعلى مراتب الشرف.

في فترة ما عانينا من تراجع الاهتمام بترسيخ الانتماء للوطن الأصغر (الدولة السعودية الحديثة) مقابل الاهتمام بالوطن الأكبر (الأمتين العربية والإسلامية)، إلى درجة أن بعض المدارس، خاصة مدارس البنات، لم يكن يُسمع فيها النشيد الوطني. ولحسن الحظ تنبهنا في وقت جيد لهذه المشكلة، وتم البدء بتعزيز قيم الوطنية لدى الطلبة، بل تم تخصيص مادة كاملة تحت مسمى الوطنية، وصار لدينا يوم وطني وبات إجازة رسمية. وأكاد أجزم أن احتفالات اليوم الوطني السعودي باتت في الأعوام الأخيرة تضاهي احتفالات عيد الاستقلال الأميركي الشهيرة في الرابع من يوليو كل عام.

وكلها أمور إيجابية يفترض أن تكون محط سعادة ورضا من قبل كل مواطن، لكن الذي حصل هو أن هذا الانتماء الوطني وهذا الاعتزاز القومي قد انحرف لدى البعض عن مساره وتحول إلى ممارسات مقيتة تضر بالوطن ومواطنيه قبل أي طرف خارجي كما سنرى في المشاهد التالية.

المشهد الأول: مواطن يهين رجل أمن في منشأة ما لمجرد كونه يمنيا، ويتهمه بالتزوير ويحقق معه وكأنه سلطة حقيقية مخولة، وفوق ذلك يصور وينشر فعله المقيت. فهو لحماقته يعتقد أنه يقوم بعمل وطني وبطولي يكشف فيه عن وظيفة «مسروقة» من قبل أجنبي، وكأن هذا الأجنبي وظف نفسه بنفسه!

المشهد الثاني: شاب سعودي يتجول في مكان ما فيلمح سيدتين يقول إنهما من إيران، فيقوم بعمل إشارة غير لائقة بيده لهما، ويصور نفسه بفخر مباهٍ بالإنجاز الوطني العظيم! فهو يعتقد على ما يبدو أنه لا يختلف عمن يقاتلون الحوثي وبقية عملاء إيران في الحد الجنوبي، وكأنه بفعله هذا اعترض صاروخا موجها إلى الرياض. ويتناسى أن هاتين السيدتين لا علاقة لهما بما تقوم به حكومتهما المتسلطة، وللمرأة احترامها في ثقافتنا بحيث يتجنب الرجال «الرجال» الزج بالنساء في الخلافات. كما يظهر في المقطع أنهما ليستا صغيرتين في العمر، وللسن احترامه في ثقافتنا، بل والأهم أنهما لم تتعرضا له بأذى، فتحت أية ذريعة يتم التعدي عليهما بقول أو فعل أو إشارة؟ ما المكسب الذي تحقق؟

المشهد الثالث: للأسف هذا قد يكون الأخطر، لأنه موقف جماعي، وتقوده أحيانا أو تنزلق فيه أقدام بعض المحسوبين على الصحافة والفكر والإعلام، بحيث يتجيش القطيع تجاه شخص أو جماعة أو دولة بشكل هستيري متشنج، وباستخدام ألفاظ نابية وسباب مقذع لا يمكن تبريره حتى لو كان دفاعا عن دين الله تعالى، فهذا الدين لم يأتِ بالفحش ولم ينادِ به حتى مع من كفروا بالله، عز وجل. فنجد الإساءة للإخوة والأشقاء وتعييرهم بأمور مثل فقرهم، أو تمزقهم السياسي. وممارسة أسلوب المن البغيض بذكر الدعم المادي أو المعنوي الذي قدمته بلادنا لهم، متناسين أن الدولة -حفظها الله- ما كانت لتقدم على شيء إلا عن قناعة تامة بأن فيه مصلحة البلاد والأمة معا.

قد يرد البعض بأن الآخرين أيضا يتطاولون ويتجاوزون ويعايرون وينكرون، وهو أمر لا شك فيه. وقد عانينا -ولا نزال- من هجمات بعض مرتزقة الإعلام العربي لعقود طويلة، ولكن هل يستلزم للرد على السفهاء أن نصبح سفهاء مثلهم؟ ألا نستطيع الرد عليهم بالحجة والمنطق؟ خاصة أن الأدلة كثيرة وفي صالحنا وهي تخدمنا دون أن ننزلق إلى مجاراة الوضاعة بمثلها. وقد مررت بمواقف كثيرة من هذا النوع إبان إقامتي في بريطانيا، وأذكر منها موقفين في لندن، أحدهما في مجلس اللوردات البريطاني، والثاني في نادي لندن للصحافة، حيث وقفت ورددت بهدوء على من كانوا يسيئون للمملكة ويحرضون عليها، ونلت احترام الحضور.

ألا نعطيهم اهتماما أكبر مما يستحقون حين نناقش الأمر أصلا؟ لماذا نعطي قيمة لكل تافه يتقيأ حقدا وكراهية؟ التجاهل أحيانا أكثر إيلاما.

لا أعرف كيف ومتى أصبح من لوازم حب الوطن والاعتداد به الانتقاص من الآخرين، والإساءة لهم بشكل يخالف الدين والأخلاق والعادات والقيم السعودية الأصيلة، من كرم وشجاعة ومروءة وحسن ضيافة، هل هو الانفتاح الثقافي المفاجئ؟ أم الشحن الإعلامي المحلي؟ أم وسائل التواصل الاجتماعي؟ أم ثمة مندسون بيننا من مصلحتهم إظهار أخلاقنا بهذا الشكل؟

الذي أعرفه هو أن جيلا كاملا قد ينشأ معتقدا أن هذه الأفعال السيئة هي من صميم الوطنية، وتلك كارثة أخلاقية وسقطة تربوية، ولن تعود على هذه البلاد المباركة إلا بعظيم الضرر من سمعة سيئة وكراهية متبادلة بين شعوب منطقة ما زالت تغلي على فوهة بركان منذ أن فقدت بوصلتها وقُطعت أوصالها.

إننا بحاجة ماسة لاستنكار كل تنمر فردي أو جماعي، وكل حملة إعلامية موتورة، وبيان أن هذه الأفعال ليست من الوطنية، وإنما هي أفعال بلطجية، ولعلنا نراجع دروس التربية الوطنية ونضمنها أمثلة واقعية، لنبين لهم الفارق بين الوطني الحقيقي الذي يخدم وطنه بإخلاص ويرفع اسم بلاده عاليا بإنجازاته وبأخلاقه، وبين عديم التربية والأخلاق الذي يريد أن يجد غطاء شعبيا لأفعاله المشينة وأفكاره الشاذة.